ما بعد الاستشراق الأمريكي والعالم الإسلامي: إنتاج المعرفة في عصر الامبراطورية

الأحد 13 سبتمبر 2015 07:09 ص

يعد الأكاديمي الأميركي الإيراني «حميد دباشي»، أستاذ الدراسات الإيرانية والأدب المقارن بجامعة كولومبيا، أحد أهم المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط بالجامعات الأميركية. ويسعى في كتابه هذا الذي ترجم حديثا للعربية، لتقديم سجل متين لتأملاته على مدى سنوات عديدة حيال دوائر إنتاج المعرفة المتعلقة بالشرق الأوسط في الحقل العلمي الأميركي، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

وتقوم الفرضية الأساسية لـ«دباشي» على رؤية مفادها أن هناك تباينا جذريا بين السمة الغالبة في المعرفة المنتجة استشراقيا والمتساوقة مع ذروة صعود الكولونيالية الأوروبية، ومن ثم لاحقا برامج دراسات المناطق ذات الصلات المباشرة أو غير المباشرة بوزارة الخارجية الأميركية أو الأوساط الاستخباراتية الأميركية في حقبة الحرب الباردة، وبين ما نشهده اليوم من معرفة رخوة وسريعة الزوال في ظل حروب الولايات المتحدة على الإرهاب. 

ففي السابق، كان نسق إنتاج المعرفة الموافق للمصالح الإستراتيجية الأميركية في المناطق المحيطة بالاتحاد السوفياتي -على طول الطريق من شرق أوروبا نزولا للشرق الأوسط والشرق الأقصى- فاعلا وعملانيا لمدة نصف قرن تقريبا.

لكنه إبان سقوط جدار برلين وصعود المشروع الإمبراطوري الأميركي، تحول هذا النسق إلى شكل جديد من إنتاج المعرفة مجرد من أي صلة بالتمثيل.

وثمرة هذا الإنتاج الجديد معرفة معدة للاستخدام مرة واحدة، لا تقوم على معرفية ثابتة أو مشروعة، وإنما أشبه بالسلع ذات الاستعمال الواحد وغير القابلة للاستبدال. معرفة منتجة على شاكلة الوجبات السريعة، لا سلطة فيها لكتاب من أمثال ولي نصر ونوح فيلدمان على أي شيء يذكر، فهم مخولون فقط بإنتاج معرفة عمومية واسعة الانتشار وبعيدة عن نطاق تخصصهم ومعرفتهم، وخاصة أن هذه المنتجات قد وجدت في ذروة مخاوف ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.

نقد مصطلح الشرق الأوسط

لكن قبل الشروع في معالجة الوضع الحالي لما تسمى «دراسات الشرق الأوسط» ولاحقته المتمة «إنتاج المعرفة في عصر الإمبراطورية»، يرى «دباشي» أنه يتوجب علينا أن نبدأ بموضوع المنطقة التي تستلزم إنتاج هذا النمط المخصوص من المعرفة، ويعني هنا تلك الجغرافيا المتوهمة التي لفقت كولونياليا وسميت «الشرق الأوسط» كتعبير سابق على إنتاج المعرفة في عصر الإمبراطورية.

فقد كان أول من أحرز قصب السبق تحت مصطلح «الشرق الأوسط» العميد الإستراتيجي في البحرية الأميركية «ألفريد ماهان»، وهي حقيقة تنم عن فهم تاريخي حيوي للغاية. ففي حمأة التنافس بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية حول آسيا الوسطى، عرف ماهان الخليج كمركز بؤري لما اصطلح على تسميته «الشرق الأوسط»، ونصح البريطانيين بالإسراع إلى السيطرة عليه إذا أرادوا إحكام سيطرتهم على الإقليم.

وعلى الرغم من تركيز الآلة الدعائية لأيديولوجيا الولايات المتحدة على تعزيز فكرة «الشرق الأوسط»، فإن المصطلح والمعرفة السياسية النفعية التي تدور في فلكه قد تحولا نحو استخدام عالمي أكثر اتساعا.

ولم يعد الأمر حكرا على الأكاديميين في أوروبا وأميركا اللاتينية أو طرق التعبير والصياغة الصحفية، بل إن البلدان العربية والإسلامية قد أنجرت بدورها نحو استخدامه وسمت نفسها «الشرق الأوسط»، ولعلها الطريقة التي تذكرهم على الدوام بالإخضاع الذي حدد ماهيتهم إلى الأبد.

بعد هذا التوضيح، يمضي «دباشي» قدما نحو وضع مخطط أولي لسمات السطوة العلمية والإعلامية للمحافظين الجدد والتي أخذت تمتد جذورها عميقا في الجامعات الأميركية، حيث تتألف هذه السطوة من:

- شبكة استخباراتية يمثلها مارتن كريمر وتوماس فريدمان على خير وجه.

- نادي المليونيرات الذي يعتمد على ما تزوده به ذراعه الاستخبارتية ليرسل الرسائل والبريد الإلكتروني ويجري المحادثات الهاتفية مع موظفي الجامعات للتهديد بقطع الدعم المادي.

- شبكة من مجلات التابلويد مثل نيويورك صن ونيويرك بوست المتخصصة في نشر الفضائح التي تستهدف أعضاء هيئة التدريس وتقلب حياتهم اليومية في مجتمعاتهم إلى جحيم.

- الآلات الدعائية كما في مشروع ديفد الذي يتسرب إلى حرم الجامعات ويستعمل التنظيمات الطلابية كقنوات يمارس من خلالها البطش بأعضاء الهيئة التدريسية المستهدفين.

- جماعات متطرفة مخبولة تمارس التهديد بالقتل عبر مكالمات هاتفية فاحشة وعنصرية تستهدف الطلبة والأساتذة وعائلاتهم طالبةً منهم الابتعاد عن الأفعال والكتابات التي تثير استهجان المتصلين.

بعد ذلك يولي «دباشي» اهتماما ببعض مراكز الأبحاث الرئيسية كمؤسسة التراث ومعهد المشروع الأميركي ومعهد هوفر. فقد بات يُستثنى الباحثون في هذه المراكز من ممارسة الأعراف العريقة في التقييم الأكاديمي، وممارسة التعليم المسؤول، والسيرورة المهنية الموثوقة كما يجدر بالعالم، لتكون مهمتهم بالمقابل محصورة بإعداد إستراتيجيات الهيمنة الملائمة للمصالح الاقتصادية الأميركية والسعي لحماية شؤون الأمن القومي المزعومة لقاء مداخيل مجزية.

كذلك يوثق «دباشي» بالاعتماد على دراسة «لويس لافام» - «مخالب الغضب: مطحنة الإعلام الجماهيري- تاريخ موجز» ما يسميها «ماكينة رسالة المحافظين الجدد ذات الثلاثمئة مليون دولار» التي ابتلعت طيفا واسعا من محطات التلفزة والإذاعة ودور النشر والصحف والمواقع الإلكترونية في الدعاية المهولة، ويتوسع في جدله أكثر ليتناول الجسم الطلابي والبحثي في الجامعات الأميركية الرئيسية الأشهر -هارفارد وشيكاغو وستانفورد- التي يتلقى فيها الطلبة والباحثون المنح الدراسية من تلك المؤسسة بصورة رئيسية.

وبرأي «دباشي» فإن هذا النهج الأخير هو الوجه الآخر للخصخصة الشرسة لعملية إنتاج المعرفة في مختلف الأنشطة والخدمات الاستخباراتية التي تتعاقد عليها المؤسسة العسكرية الأميركية، والتي لم تعد تقتصر بصورة رئيسية على مراكز الأبحاث كما جرت العادة، بل أخذت تمتد نحو الجامعات ضمن عملية ممنهجة يجري فيها تحويل الجامعات إلى شركات تجارية، الأمر الذي يظهر بشكل جلي اليوم في سلوك رؤساء الجامعات حيث يتقمص هؤلاء وبصورة مطردة دور المدير التنفيذي الأعلى لشركة كبرى، ويعتبرون أعضاء الهيئة التدريسية مجرد موظفين لديهم بالمحصلة، كما باتوا يسعون إلى سحب قرارات التقييم الأكاديمي تدريجيا من مكتب العميد إلى يد الرئيس التنفيذي للجامعة.

المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب

وبناء على هذا الواقع المعرفي والأكاديمي اليوم داخل الولايات المتحدة الأميركية، يرى دباشي أن ما نشهده اليوم في سياق الحرب على الإرهاب قائم في الأصل على وهم إمبراطوري أحادي القطب ينتج معرفة متداولة معدة للاستخدام مرة واحدة بمعدل مغامرة عسكرية أميركية واحدة تلو الأخرى. 

وفي غمرة ذلك يجري تحشيد الجمهور كسلاح في يد الخداع الشامل لصالح مشروع عسكري ما عبر بث الأفكار في إطار عمليات نفسية للاستهلاك الشعبي العام في سعي حثيث لتغيير الخطاب النقدي الذي يحمل الولايات المتحدة مسؤولية ما يحدث في العراق وأفغانستان والمنطقة بشكل عام، وإرجاع ذلك إلى الحزازات الطائفية القروسطية بين السكان الأصليين في هذه البلاد.

بيد أن هذه الرؤية لا تستند كما كان يستند الاستشراق على معرفة صلبة ومناهج رغم نقدنا الشديد لها -والكلام هنا للكاتب- بل تقوم على «معرفة رخوة» يقودها عدد من الشخصيات المتعددة المشارب كابن وراق، وإيان حرسي علي، وفؤاد عجمي، وسلمان رشدي، والبانا بنديكت السادس عشر، وآذر نفسي مؤلفة رواية «أن تقرأ لوليتا في طهران» التي أضحت الدليل الأفضل للخبراء والمحللين في موضوع إيران.

ففي ظل هذه السوق المعرفية الجديدة، يتنافس أولئك العاملون في الإعلام مع شركات العلاقات العامة لانتزاع حصة الأسد من الاهتمام الجماهيري من خلال معرفة منتجة، خبيثة العواطف، تلقائية التسويق، والأهم من ذلك أنها تستعمل مرة واحدة في الحيز المؤثر الذي تولده.

وعلى هذا النحو، فهم لا يخاطبون جمهورا بعينه، أو يشكلون جزءا مكملا في بناء الموضوع. إنهم آنيون يستعملون لمرة واحدة في عملية تلفيق القبول الجماهيري، مقنعون في نبوءاتهم السياسية التي تحققت اليوم، منبوذون في الجولة التالية من مغامرة القوة العسكرية الأميركية في الغد.

  كلمات مفتاحية

الاستشراق حميد دباشي الشرق الأوسط أمريكا المعرفة الإعلام إيران العلاقات العامة

المنهج التاريخي عند المستشرقين

التراث وتحيزات الاستشراق

الدراسات الاستشراقية .. والنعرة العلمية

الاستشراق.. وتنميط العرب في أميركا

محذرا من أسلمة أوروبا .. مستشرق اسرائيلي: كبرى المدن ستسيطر عليها أغلبية إسلامية

محددات السياسة الإسلامية للدول الكبرى