الجذور الهشة للعلمانية التركية: لماذا تخلع تركيا ثياب أتاتورك؟

الأحد 24 يوليو 2016 03:07 ص

تثير عواقب الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا سؤالا جوهريا: هل سيواصل الرئيس« أردوغان» متابعة مساره السلطوي أم أنه سوف يمد يده إلى خصومه لمحاولة رأب التصدعات العميقة في المجتمع التركي.

لا يزال من المبكر الحكم على ذلك. ولكن انطلاقا من الأمثلة التاريخية السابقة، فإن التحديات الخطيرة للأنظمة السلطوية أو شبه السلطوية غالبا ما تزيد من تصلبها بدلا من أن تجعلها أكثر مرونة. ومع ذلك فسوف يكون من الخطأ النظر إلى ما يحدث الآن في تركيا حصرا من خلال منظور شخصية «أردوغان» وميوله. يمثل «أردوغان»، وحزب العدالة والتنمية، تحولا جذريا في السياسة التركية، يأتي متوازيا مع تحولات أخرى في البلدان ذات الأغلبية الإسلامية في الشرق الأوسط.

في محاولة لتحريك مسار التاريخ التركي بعيدا عن العلمانية المتطرفة لمؤسس تركيا الحديثة «كمال أتاتورك»، قام حزب العدالة والتنمية بتغيير اتجاه البلاد بعيدا عن النمط السلطوي الكمالي. ونظرا لأن المراقبين الغربيين كانوا مؤيدين للعلمانية الكمالية، فقد تغافلوا عن كون النظام كان مشابها للأنظمة الفاشية الأوروبية في حقبة الثلاثينيات التي تتبع نمط الدولة القومية ذات الحزب الواحد مع وجود قائد، «أتاتورك»، يرقي إلى مرتبة القدسية الشخصية. كان نمط الحكم أبعد ما يكون عن الليبرالية الغربية، ولم يتم تخفيف تلك القبضة ببطء سوى في الخمسينات.

لم تكن العلمانية الكمالية تعبيرا عن حركة شعبية قاعدية واسعة، ولكنها قد جرى فرضها من خلال نخبة حضرية صغيرة، عسكرية وفكرية، على مجتمع تقليدي يقطن معظمه في المناطق الريفية. لم تقم الكمالية فقط بفرض أبجدية جديدة قطعت كل صلة للأتراك بتاريخهم وثقافتهم، ولكنها قامت أيضا بحظر الأشكال التقليدية من الملابس (الطربوش، والسراويل الفضفاضة للرجال والحجاب للنساء)، وقامت بفرض الزي الأوروبي على السكان. كما تم تغيير جميع الألقاب العربية أو الإسلامية إلى ألقاب تركية.

لم تمر أي من المجتمعات الأوروبية بتلك الثورة الثقافية الموجعة التي تم فرضها من أعلى إلى أسفل. في الغرب، كانت العلمنة تسير جنبا إلى جنب مع المشروع التنويري للديمقراطية والتحرر. في تركيا، وبشكل أقل جذرية في ظل حكم الشاه في إيران وتحت حكم الدكتاتوريات العسكرية في دول مثل مصر وتونس وسوريا والعراق، لم يكن أمام الشعوب أي خيار.

كانت الانتصارات الانتخابية لحزب العدالة والتنمية منذ عام 2002 (وكذلك التطورات المماثلة في الدول الإسلامية الأخرى)، بطريقة ما، تعبيرا عن عودة صوت المقموعين. ونظرا لأن النظام الكمالي قد تحرر في نهاية المطاف سياسيا (وإن لم يكن ثقافيا) فإن ظهور نظام التعددية الحزبية قد أدى في نهاية المطاف إلى تمكين المحافظين التقليديين الذين حرموا منذ أمد طويل من ممارسة خياراتهم الشخصية.

وفي الوقت نفسه، جلب التحديث الاقتصادي الحراك الاجتماعي  في صفوف المحافظين، مما أدى إلى ظهور البرجوازية الجديدة التي تمسك بالقيم الدينية التقليدية، وتنظر إلى النخبة الكمالية التي تسيطر على الجيش والبيروقراطية، والقضاء، والجامعات على أنهم ظالمون. شكل هؤلاء الناخبين أساس الانتصارات الانتخابية والشرعية الديمقراطية لحزب العدالة والتنمية. الجهود الأخيرة من قبل عناصر من الجيش، درع العلمانية الكمالية، لإلغاء إرادة الشعب (كما فعل ثلاث مرات في نصف القرن الماضي) تؤكد الصدام المستمر بين العلمانية والديمقراطية في تركيا.

وفي الوقت نفسه، لم تكن السياسة الخارجية لـ«أردوغان» في الأعوام الأخيرة ناجحة بأي شكل من الأشكال. وقد تحول التزامه المبدئي بسياسة صفر مشاكل مع الجيران إلى تدهور في العلاقات مع أرمينيا وروسيا و(إسرائيل) ومصر، ناهيك عن الأوضاع السلبية الداخلية وأبرزها هجمات تنظيم «الدولة الإسلامية» الناجمة عن التورط في الحرب الأهلية في سوريا.

ولكن أيا من ذلك تسبب في تآكل الدعم الشعبي لـ«أردوغان» في الداخل التركي، في حين وجدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أنفسهم يساندونه، وإن كانوا يجذون على أسنانهم، في مواجهة محاولة الانقلاب الأخيرة عليه. هذا يدل على أن المصالح الجوهرية للقوى الغربية في تركيا لا تزال مستقرة، حيث يحتاجها الاتحاد الأوروبي من أجل إيقاف الموجات التالية من المهاجرين، ومعظمهم من سوريا، كما تحتاج الولايات المتحدة إلى مساندتها في الحرب ضد «تنظيم الدولة». ومن المشكوك فيه أن مطاردة «أردوغان» للأعداء الداخليين، حقيقيين كانوا أو متوهمين، سوف تمنع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي من مغازلة التعاون التركي.

ولكن رد فعل «أردوغان» العنيف في مواجهة محاولة الانقلاب والذي قد يشمل المحاكمات الصورية، بالإضافة إلى تطهير مؤسسات الدولة من بقايا العلمانية ومن حلفائه السابقين في حركة «كولن»، سوف يعمق الهوة داخل المجتمع التركي. في الواقع لقد تم شن الهجمات الإرهابية على تركيا ليس فقط من قبل تنظيم «الدولة الإسلامية» ولكن أيضا من قبل المسلحين الأكراد الذين يطالبون بالحكم الذاتي، وهو المطلب الذي يتحدى مفهوم الأمة التركية التي لا تتجزأ والذي يعد حجر الزاوية في الدولة الكمالية.

قبل محاولة الانقلاب، اتخذ «أردوغان» خطوت كبيرة نحو الحد من توتر العلاقات مع روسيا و(إسرائيل) ويبدو من غير المرجح أن يخرج عن هذا المسار في أعقاب المحاولة الفاشلة. لا تبدي الحرب الأهلية السورية أي بوادر للخمود وسوف يستمر انهيار الدولة السورية في تحدي سياسة تركيا وتماسكها الاجتماعي مع تدفق المزيد من اللاجئين إليها عبر الحدود.

في نهاية المطاف، أثبتت الكمالية العلمانية القائمة على الجيش أنها غير قابلة للاستمرار: وقد تحطمت سريعا تحت وطأة التأييد الواسع الذي يتمتع به حزب العدالة والتنمية. لكن الانقلاب من المرجح أن يعزز الجوانب غير الليبرالية للديمقراطية التي نشأت في عهد «أردوغان»، حيث يمكن أن تتعارض إرادة الشعب وحكم الأغلبية مع التعددية، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير. مدى قابلية هذا النظام للاستقرار في تركيا، حيث تتزايد المناهضة لـ«أردوغان» على الرغم من المعارضة الشعبية للانقلاب، هو أمر علينا أن ننتظر كي نراه.

*«شلومو أفينيري»: أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية في القدس

المصدر | بروجيكت سينديكت

  كلمات مفتاحية

تركيا أردوغان أتاتورك العلمانية الكمالية العدالة والتنمية

لماذا لا تصلح سردية الصراع الإسلامي العلماني لتفسير محاولة الانقلاب التركية؟

فشل الانقلاب: الطبقة الوسطى المتدينة ترسم مستقبل تركيا على حساب النخبة الكمالية

«فورين أفيرز»: لماذا فشل الانقلاب العسكري في تركيا ونجح في مصر؟

«واشنطن بوست»: لماذا فشل الانقلاب الأخير في تركيا؟

«ميدل إيست آي»: لماذا بدا الغرب راغبا في نجاح انقلاب تركيا؟

محادثة الانقلابيين في تركيا على واتس آب: «اسحقوهم .. احرقوهم .. لا مجال للتراجع»

الأمل التركي: كيف يمكن أن تستفيد تركيا من انقلابها الفاشل؟

تركيا.. حضور القرآن بالمناسبات يثير غضب العلمانيين ومسؤول يرد بصورة لأتاتورك