الأمل التركي: كيف يمكن أن تستفيد تركيا من انقلابها الفاشل؟

الجمعة 29 يوليو 2016 06:07 ص

في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا مؤخرا، بدأ المراقبون سريعا في الحديث حول إذا ما كانت حكومة الرئيس «رجب طيب أردوغان» سوف تبدأ في السير بشكل أسرع على طريق التسلط، منجرفة بعيدا عن حلف الشمال الأطلسي، وربما تجد نفسها منجرفة في صراع أهلي طويل الأمد. وعلى الرغم من أنه لا يزال هناك العديد من الأسباب للقلق بأن تركيا سوف تأخذ منعطفا خاطئا، فإن هناك مساحة للأمل أيضا. إذا نجحت القيادة السياسية للبلاد في اغتنام هذه الفرصة فإن صيف عام 2016 قد يمثل نقطة للتحول نحو الأفضل.

صعود «أردوغان»

تركيا بلد تبدو مكوناته وكأنها معقودة معا عبر روابط هشة. يقول الأتراك إنهم يفخرون بحلم «أتاتورك» في مجتمع ديمقراطي وحيوي وحديث، ولكن تركيا اليوم تبدو مختلفة عن ذلك. تصف أنقرة نفسها على أنها جسر بين الحضارات لا ينتمي إلى الغرب أو الشرق، ويدافع الأتراك عن فكرة أن بلدهم هي بمثابة فسيفساء ثقافية. ولكن الحكومات قد قمعت العديد من الثقافات حرفيا ومجازيا من أجل الحفاظ على نغمة الحوار العام.

إلى حد كبير، يبدو انعدام الأمن في أنقرة أمرا مفهوما. تحيا تركيا في محيط صاخب، في حين أن أشباح الإمبراطورية المنهارة لا تزال تطارد الثقافة الجمعية للبلاد التي تتمتع ديمقراطيتها بجذور ضحلة. في الواقع، قبل تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923، لم تكن تركيا قد شهدت سوى 14 عاما من الديمقراطية البرلمانية.

كان من المفترض أن تعمل أنقرة في تلك المرحلة على البدء في بناء دولة ديمقراطية قوية من شأنها أن تحل آثار التوترات الاجتماعية على الساحة السياسية. ولكنها بدلا من ذلك نصبت الاستبداد للمحافظة على وحدة البلاد. لم يتم توحيد الأتراك على أساس الهوية المشتركة، لكن وفق المظالم المشتركة في مواجهة النظام. في الواقع، وفي المخيلة الجماعية الجمهور التركي، فإن منطقة الحكومة في أنقرة تبدو أشبه بعصبة حصرية من الرجال يرتدون الزي الكاكي ويستغلون قوة الدولة من أجل تحقيق مكاسبهم الخاصة.

وجاء الترحيب الأولي، الذي انتهى إلى بعض السخط في نهاية المطاف، بصعود «أردوغان» بسبب حقيقة أنه ربما كان أول سياسي وعد أن يقتل «جالوت» أنقرة. وتزامن ظهوره مع واحدة من أكثر الفضائح السياسية توهجا في تركيا. في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1996، وبعد أقل من عامين على انتخاب «أردوغان» رئيسا لبلدية إسطنبول، كشفت حادثة تحطم سيارة أن مسؤولا كبيرا في الشرطة، ومهرب مخدرات دولي، وعضو برلماني بارز يقود فصيلا مواليا للحكومة كانوا يستقلون متن نفس السيارة. ما أصبحت تعرف باسم «فضيحة سوسورلوك» كشفت عن شبكة سرية من المسؤولين والسياسيين الذين يعملون لمصالحهم الخاصة. على الرغم من أن الحجم الحقيقي لهذه الدولة داخل الدولة لم يتم الكشف عنه أبدا، أججت هذه الحادثة الغضب الشعبي ضد الدولة العميقة في تركيا والذي ساهم بشكل كبير في تزايد حظوظ «أردوغان» السياسية.

من جانبه، تعهد «أردوغان» بتطهير منزله في أنقرة وإغلاق الأبواب الخلفية للتعامل وقيادة مستقبل تركيا نحو أوروبا. كما تعهد أن يعيد فتح المساحات المغلقة التي شملت العمل في القطاع العام، والتعليم العالي، والالتحاق بمصاف النخب التجارية والفكرية أمام المحافظين الدينيين. لعبت الحركات الدينية مثل «حركة كولن» دورا مركزيا في هذا الهدف. ولم يعد الناس يشعرون أن التدين يمكن أن يمثل عائقا في الحياة العامة.

بالنسبة إلى العلمانيين، كانت هذه التحركات بمثابة خطوات نحو ترسيخ السيطرة الدينية على الجمهورية العلمانية. يذكر هؤلاء أن «أردوغان» وصف يوما الديمقراطية كأنها قطار يركبه حتى يصل إلى وجهته ثم يترجل عنه. من جانبهم، كان الإسلاميون يعتقدون أنهم يسيرون في اتجاه وجهتهم المقصودة.

لم يقم «أردوغان» بالكثير من أجل تخفيف تلك المخاوف. يجيد «أردوغان» التحول بسرعة من موقع إلى آخر اعتمادا على مقتضيات اللحظة. في أوقات مختلفة، كان «أردوغان» قادرا على إيجاد مشتركات مع العلمانيين والديمقراطيين الاشتراكيين والليبراليين المؤيدين لأوروبا والإسلاميين المتشددين والقوميين الأكراد، وحتى اليمين المتطرف.

عبر مراجعة طريق «أردوغان» إلى السلطة، ربما لا يكون مستغربا أن غرائزة تدفعه نحو البقاء على قيد الحياة. ومع ذلك، فإن تركيا اليوم لا تبدو في موقف يمكن أن يجلب شعبها معا حتى ولو للحظة قصيرة من الحزن أو الشعور بالانتصار.

تركيا الموحدة

ولكن الآن، ربما للمرة الأولى منذ عقود، يتشارك الأتراك الغضب ضد الانقلاب الفاشل وعقله المدبر رجل الدين المقيم في ولاية بنسلفانيا «فتح الله كولن».

يعتقد أن «حركة كولن»، المعروفة بالخدمة، لديها الملايين من الأتباع في جميع أنحاء العالم ومليارات الدولارات من الأصول. كان «كولن» حليفا لـ«أردوغان» في سنواته الأولى. في الخارج، اشتهرت حركة «كولن» بتبني نهج أكثر ليبرالية وعلمانية في مقاربة الإسلام. في الداخل، فإن ماضيها المظلم قد تسبب في خلق نفور عظيم الجذور. (في استطلاع للرأي أجرته مؤسسة متروبول في عام 2014، بلغت نسبة تأييد كولن 3% وهي نسبة تنافس الزعيم الإرهابي الكردي عبد الله أوجلان).

لا يوحي تاريخ الجماعة باستعدادها لتقبل النقد. في عام 2002 تم اغتيال الأستاذ الجامعي «نسيب هابلاميت أوغلو» وقد اتهمت عائلته جماعة «كولن» بالتورط في الحادث، بعد أن كشفت عن أنه كان يعمل على فضح الحركة وأنه تلقى تهديدات بالقتل. الكتاب، الذي نشر بعد وفاته، لا يزال واحدة من أكثر الأعمال موثوقية حول الحركة. ويبقى لغز مقتله بلا حل حتى الآن.

«نديم سينر»، الفائز بجائزة القلم لحرية التعبير في عام 2010، جرى اعتقاله أيضا في عام 2011 بعد أن نشر كتابة يفضل فيه الدور المزعوم للحركة في محاكمات أرجينيكون والمطرقة. «سينر»، الذين زعم أيضا تورط «كولن» في مقتل الصحفي الأرمني «هرانت دينك» في عام 2007، هو واحد من بين كثيرين تعرضوا لمؤامرات مماثلة من قبل الحركة ما في ذلك رئيس استخبارات الشرطة السابق «حنفي أوجي» وصحفي التحقيقات «أحمد سيك».

أدت محاكمات أرجينيكون والمطرقة التي اتهم فيها تحالف من كبار ضباط الجيش وسماسرة السلطة العلمانية بالتآمر للإطاحة بالحكومة المنتخبة في البلاد، إلى تطهير الآلاف من الضباط والجنرالات العلمانيين في الجيش. حتى في أوجها، كان ينظر إلى أدلة بعض هذه القضايا من قبل الخبراء القانونيين والمشرعين على أنها غير دقيقة وأنها عمل من أعمال الانتقام التي يقوم بها الإسلاميون في تركيا، بمن فيهم رئيس الوزراء، ضد الظالمين السابقين في الجيش. وقد جادل الكثيرون مثل «سينر»، «سيك»، وأستاذ برينستون «داني رودريك»، أن «كولن» كان يدير هذه الحالات من وراء الكواليس.

في عام 2014، بعد صدور مجموعة من الأشرطة المسربة التي مست الدائرة المقربة لـ«أردوغان» فقد توترت علاقته بحليفه الأسبق. وصف أحد كبار مستشاري «أردوغان»، «يالجين أكدوجان»، الأمر بأنه مؤامرة ضد الجيش الوطني للبلاد. في غضون بضعة أشهر، تم عكس القناعات، وأفرج عن المتهمين، وانهارت القضية.

في وقت لاحق، بدا واضحا أن هذه المحاكمات قد مهدت الطريق أمام انقلاب تركيا الفاشل. العديد من قادة المؤامرات السابقة حصلوا على مواقع مرموقة وبعضهم تم توجيه الشكر إليهم. في الواقع، في الشهر الماضي، قام المتهم السابق في قضية أرجينيكون، «زكي أكوك»، باتهام أكثر من 10 جنرالات بالتورط في مؤامرتين. العديد من هؤلاء الذين اتهمهم هم الآن قيد الاعتقال إثر محاولة انقلاب تركيا الفاشلة.

فرصة ذهبية

الجزء الأكثر إثارة للاهتمام من الانقلاب الفاشل هو أن أسوأ أعداء من الجنرالات العلمانيين وأحزاب المعارضة قد ساعدوه في مواجهة خيانة حلفائه السابقين من أنصار جماعة «كولن» التي ازدهرت تحت ولايته. في مؤتمر صحفي مؤخرا، قدم نائب رئيس الوزراء «محمد شيمشك» تقييما صريحا لهذه المفارقة حيث قال: «صحيح انه خلال عصرنا كان أنصار كولن يتمتعون بحرية كاملة. نحن نعترف بذلك». وأضاف بالقول: «ماذا؟ لأنه لم يكن لدينا خبرة في إدارة البلاد في الماضي. لم يكن لدينا الكثير من الناس الذين عملوا في البيروقراطية التركية».

وعلى الرغم من أن الطبيعة السرية للشبكة وبنيتها المعقدة وتاريخها الطويل هي كلها أمور تجعل من الصعب الكشف عن مدى تورطها، إلا أن هناك بعض الأدلة التي تشير بالفعل نحو «كولن». قال رئيس هيئة الأركان العامة «خلوصي عكار»، الذي اختطف خلال محاولة الانقلاب في شهادته أن واحدا من قادة الانقلاب عرض عليه مهاتفة «كولن» من أجل تأييده. كما اعترف العديد من المشاركين في الانقلاب بولائهم لـ«كولن».

هناك أدلة أخرى أيضا. قائد الشرطة الذي تمت الإطاحة به لصلته بجماعة «كولن» تم اعتقاله من أحد الدبابات يرتدي زيا عسكريا. أحد أعضاء القوات الخاصة الذين كانوا مكلفين باقتحام فندق «أردوغان» عثر معه على مذكرة مكتوبة بخط اليد مع توقيع إلى «هوتشا أفندي» وهو اللقب الذي يستخدمه أتباع «كولن» لوصفه. كما غرد أحد الصحفيين المؤيدين لـ«كولن» قبل يوم من الانقلاب بالقول: «سيتم شنقه عند الفجر». وأظهرت دراسة حديثة أجرتها أحد مؤسسات استطلاعات الرأي التركية أن ما يقرب من ثلثي الأتراك يعتقدون أن «كولن» كان وراء محاولة الانقلاب.

في حال كان هذا الانقلاب قد حظي بدعم صفوف الجنرالات إضافة إلى المعارضة العلمانية فإنه كان بإمكانه أن ينجح. في الواقع، على الرغم من ازدراء «كولن» المعروف لـ«أتاتورك» فإن أتباعه قد استخدما بشكل واضح المقولات الكمالية. وللمفارقة فإن المجلس العسكري الذي ادعوا تأسيسه أثناء محاولة الانقلاب قد أطلق عليه «مجلس السلام الداخلي» في إشارة إلى شعار «أتاتورك» الشهير «السلام في الوطن والسلام في العالم».

قبل الانقلاب، فإن أيا من الحكومة أو المعارضة لم يكن يبدي أدنى درجات حسن النية تجاه الطرف الآخر، ولو حتى عبر المصافحة في العلن. في الوقت الراهن هم يتحدثون إلى بعضهم البعض. تم استقبال رئيس الأركان «خلوصي أكار» في البرلمان بحفاوة بالغة. كما وجه رئيس الوزراء «بن علي يلدرم» الشكر علنا لجميع أحزاب المعارضة لوقوفها إلى جوار حكومته. يوم الأحد الماضي، قام حزب الشعب الجمهوري العلماني بتنظيم مسيرة مؤيدة للديمقراطية في ساحة تقسيم في إسطنبول، والتي كانت قد شهدت احتجاجات جيزي بارك في عام 2013 وتم حظر التجمعات العامة فيها. كما حضر التظاهرة شخصيات بارزة موالية للحكومة مثل وزير الصحة «محمد مؤذن أوغلو» وعمدة إسطنبول «قدير توباس».

إذا نجحت أنقرة في الحفاظ على هذه النغمة التصالحية غير المعهودة، فإن بإمكاننا أن نعد الانقلاب الفاشل بمثابة نعمة مقنعة. وبدلا من استغلال هذه الأزمة من أجل الربح السياسي، فإنه ينبغي على «أردوغان» ومعارضيه البدء في استكشاف أرضية مشتركة بشأن القضايا المثيرة للجدل مثل خطط «أردوغان» للنظام الرئاسي، وتصاعد تهديد تنظيم الدولة الإسلامية وحزب العمال الكردستاني، وأزمة اللاجئين السوريين، والاقتصاد الهش بشكل متزايد.

نجحت تركيا في الحفاظ على ديمقراطيتها، والآن تبدو البلاد بحاجة إلى إعادة البناء، بداية من برلمان قوي إلى وسائل علام حرة ومحاكم محايدة وحوار عام صحي يشمل ويحترم جميع المواطنين. إذا نجح «أردوغان» في فعل ذلك فإنه سيتحول إلى أسطورة سياسية في تركيا. وإذا لم يفعل فإن بلاده سوف تصبح معرضة للمزيد من التمزق.

  كلمات مفتاحية

أردوغان تركيا انقلاب تركيا أتاتورك المعارضة التركية

«أردوغان»: على أمريكا أن تلزم حدودها .. وهناك دول لم تهنئنا وقفت مع الانقلاب

الجذور الهشة للعلمانية التركية: لماذا تخلع تركيا ثياب أتاتورك؟

فشل الانقلاب: الطبقة الوسطى المتدينة ترسم مستقبل تركيا على حساب النخبة الكمالية

«فورين أفيرز»: لماذا فشل الانقلاب العسكري في تركيا ونجح في مصر؟

«واشنطن بوست»: لماذا فشل الانقلاب الأخير في تركيا؟

15 يوليو.. ليلة عصيبة قضاها «قادة الجيش التركي» في أسر الانقلابيين

محكمة تركية تأمر بسجن 3 سفراء مقالين على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة