جروح الثورة الإيرانية تنزف من جديد: أدلة جديدة على حدوث عمليات قتل جماعي

الخميس 18 أغسطس 2016 09:08 ص

تحولت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 إلى العنف بمجرد الإطاحة بالشاه «محمد رضا بهلوي». تم القبض على عشرات من كبار رموز النظام السابق وتم إعدامهم رميا بالرصاص دون محاكمة ليلة بعد ليلة، على سطح مدرسة اتخذها قائد الثورة، «آية الله الخميني»، مقرا لإقامته في وسط طهران.

تم نشر صور أجسادهم الممزقة من الأعيرة النارية والمجردة من الملابس من فوق الخصر على الصفحات الأولى من الصحف. كانت الرسالة واضحة: لن يسمح بالعودة إلى الحقبة السابقة. تسبب هذا القدر من الوحشية في صدمة كبيرة خاصة بالنسبة إلى أمة لم تعتد هذا القدر من العنف، وبشكل أخص بسبب أن المسؤولين عنه كانوا هم رجال الدين الشيعة الذين ينظر إليهم على أنهم رجال الله. لكن الإيرانيين، الذين لا يزالون يشتركون في حماستهم الثورية التي أطاحت بواحد من أكثر الأنظمة قوة في المنطقة، تأقلموا في النهاية مع الأمر. في الذاكرة الحديثة لم يكن هناك سابقة في أي مكان في العالم لتولي رجال الدين للسلطة أو لوجود ثورة بهذا على هذا النطاق. كان لابد من حماية الثورة.

وضع «آية الله الخميني» الأساس لثقافة العنف المستشري والإفلات من العقاب التي تعاني منها البلاد حتى يومنا هذا. باسم الثورة، سيطرت ثقافة العنف على توجهات البلاد مما أكسبها سمعة باعتبارها دولة مارقة وتسبب في تقزيم تطورها.

لا يوجد لدينا أي نقص في الأمثلة الدالة على هذه الوحشية عبر 37 عاما من عمر الثورة الإيرانية، وخاصة في عقدها الأول. ولكن تسجيلا صوتيا يعود تاريخه إلى ثلاثة عقود ظهر إلى السطح في الفترة الأخيرة يسهم في إلقاء الضوء على الحلقة الأبشع من حكم رجال الدين في البلاد.

التسجيل الصوتي

يركز الشريط الصوتي على الأحداث التي وقعت في صيف عام 1988، عندما تم إعدام الآلاف من السجناء السياسيين الذين سبق أن حكم عليهم بالسجن بسبب نشاطهم السياسي، وذلك بأمر من «آية الله الخميني». وينتمي السجناء لمجموعة متنوعة من الجماعات السياسية، مثل منظمة مجاهدي خلق أو الفدائيين اليساريين أو المجاهدين الماركسيين (بيكار).

يظهر التسجيل الصوتي لقاءا يعود تاريخه إلى 15 أغسطس/آب عام 1988، يظهر خلاله وريث «الخميني» المنتظر آنذاك، «آية الله منتظري» وهو ينتقد أعضاء اللجنة المسؤولة عن عمليات الإعدام، قائلا أن التاريخ سوف يحكم عليهم. «دعوني أكون صريحا معكم، لقد ارتكبتم الجريمة الأكبر في الجمهورية الإسلامية، وهي جريمة سوف يديننا التاريخ جميعا عليها. سوف يتم النظر عليكم على أنكم من أكابر المجرمين في التاريخ». هكذا قال «منتظري» غاضبا خلال الاجتماع الذي عقده في منزله في مدينة قم المقدسة. (آية الله منتظري).

تم استدعاء أعضاء اللجنة من أجل تقديم تقرير حول التقدم الذي حققوه في عملهم. أبلغ الأعضاء «منتظري» أنهم أعدموا 750 سجينا في طهران وحدها وأن هناك 200 آخرين ينتظرون الإعدام. لم يكن أعضاء اللجنة يعلمون أن «منتظري» أرسل رسالتين بخط اليد إلى الخميني يبدي فيهما اعتراضه على الشديد على المجازر. «لا  أريد أن يحكم التاريخ على الخميني أنه شخصية وحشية وقاسية ومتعطشة للدماء»، وفقا لما قاله «منتظري» للحاضرين.

خاطب «منتظري» أعضاء اللجنة قائلا: «كيف يمكن أن تقتلوا سجينا يقضي بالفعل حكما بالسجن. ما الذي فعله خلال سجنه حتى يستحق القتل. ما الذي يخبرنا به ذلك حول نظام العدالة لدينا».

هذا الصراع حول عمليات الإعدام دفع «الخميني» إلى إقالة «منتظري» بعد بضعة أسابيع عن خلافته، ما مهد الطريق أمام «آية الله علي خامنئي» للوصول إلى منصب المرشد الأعلى.

توفي «منتظري» في عام 2009.  تم نشر التسجيل الصوتي على موقعه على الإنترنت الذي يدار بواسطة نجله، «أحمد»، وهو رجل دين أيضا. ويقول إنه تلقي منذ ذلك الحين عدة أوامر من الاستخبارات الإيرانية بإزالة التسجيل، مع أنه تمت مشاركته بشكل موسع على شبكة الإنترنت، وعلى موقع يوتيوب.

يعطي التسجيل دفعة كبيرة لأسر الضحايا حيث لا يزال كثيرون منهم، رغم مرور 28 عاما، يسعون إلى تحقيق العدالة ويبحثون عن أماكن دفن جثث ذويهم. كانت هناك بالفعل دعوات للتحقيق في جرائم القتل.

وقال «أحمد منتظري» لتليفزيون «بي بي سي الفارسي» أنه هدفه من نشر الشريط هو وضع حد لجهود أولئك الذين يشهون التاريخ، كما أشار والده في مذكراته المكونة من 600 صفحة التي نشرها على الإنترنت في عام 2000 بينما كان يخضع للإقامة الجبرية.

يسلط الشريط الصوتي الضوء ليس فقط على قسوة« الخميني»، ولكن أيضا على بعض أعضاء اللجنة الذين يشغلون مناصب مرموقة إلى اليوم بما في ذلك أعضاء في حكومة الرئيس «حسن روحاني».

عمليات الإعدام

استغرقت عملية الإعدام قرابة 8 أسابيع، وتمت في أعقاب نجاح إيران في صد آخر محاولات التوغل العراقي مع نهاية حرب الأعوام الثمانية بين إيران والعراق. خلفت الحرب بالفعل مليون شخص بين قتيل وجريح على الجانبين. خلال الأشهر الأخيرة من الحرب، كان الأداء الإيراني سيئا على الجبهة وكانت البلاد معرضة لخسارة الحرب. وكان «الخميني» وافق للتو على مضض على اتفاق لوقف إطلاق النار توسطت فيه الأمم المتحدة. ولكن «صدام» كان حريصا على تعزيز موقفه قبل دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. قامت قواته بمحاولة أخيرة للتوغل بمساعدة منظمة مجاهدي خلق التي كان معظم أعضائها يعيشون في المنفى في العراق في ذلك التوقيت. تم صد التوغل من قبل إيران. ولكن «الخميني» حول غضبه تجاه آلاف السجناء من منظمة مجاهدي خلق والتنظيمات السياسية اليسارية الأخرى الذين يقضون أحكاما بالسجن بسبب أنشطتهم المعارضة للحكومة الإسلامية.

دعا «الخميني» إلى تشكيل لجنة فورية لتعاقب بلا رحمة أولئك الذين لا يزالون موالين لهذه التنظيمات. لاحقا أطلقت المعارضة على هذه اللجنة اسم لجنة الموت. كانت تعليمات «الخميني» إلى اللجنة تكمن في تحقيق العدالة الناجزة. قرر «الخميني» أن أولئك الذين يصرون على الولاء لقضيتهم يتم تصنيفهم كمحاربين ويجب أن يتم تدميرهم. وأضاف: «آمل مع الانتقام الثوري من أعداء الإسلام أن نحوز رضا الله».

وقد روى العشرات من الناجين كيف كان أعضاء اللجنة يجلبون كل سجين على انفراد إلى غرفة ويسألونهم إذا ما كانوا لا يزالون موالين لمنظماتهم. وحتى لو أنكروا ذلك الولاء فإنهم يتم توجيه أسئلة إضافية لهم على شاكلة: هل هم على استعداد لوضع حبل المشنقة حول رقبة رفاقهم السابقين الذين لم يتخلوا عن قضيتهم؟ هل هم على استعداد للتبرؤ من منظماتهم ورفاقهم علنا على شاشات التليفزيون الوطني؟ هل سيكونون مستعدين للسير على الألغام على الجبهة دفاعا عن الإسلام؟

تم سؤال السجناء اليساريين إذا ما كانوا يؤمنون بالله ويؤدون الصلاة ويصومون رمضان. معظم الذين أجابوا بالنفي تم إعدامهم مع أنهم لم يكونوا يعلمون أي شيء حول الهدف من هذه الأسئلة. وقد أخبروا أنهم تعرضوا للاستجواب فقط من أجل التفريق بين المؤمنين وغير المؤمنين في العنابر.

اختفى قرابة 4482 شابا وفتاة خلال فترة شهرين، وفقا لمنظمة العفو الدولية. وقال «منتظري» أنه أخبر في أوقات مختلفة أنه تم إعدام ما بين  2800 و 3800 سجين. تم شنق معظم هؤلاء داخل السجون حفاظا على السرية. أورد المؤرخ المختص في شؤون الشرق الأوسط «إرفاند أبراهميان» في عام 1999 اعترافات تؤكد أن اللجنة رفضت استخدام الرمي بالرصاص تفاديا للجلبة، رغم شكوى الجلادين من ضغط العمل بسبب كثرة المشنوقين.

لم يتم إخبار عائلات القتلى بعمليات الإعدام قبل بضعة أشهر عندما تم دعوتهم للتعرف على متعلقات ذويهم إلا أنه لم يتم إخبارهم بأماكن دفنهم.  يعتقد كثيرون أن الضحايا تم دفنهم في مقابر جماعية لا تزال أماكنها مجهولة إلى الآن. تم دفن بعضهم في مقابر مجهولة في الأراضي القاحلة على جانبي الطريق السريع المؤدي إلى طهران. وإلى اليوم، يتم منع العائلات من إقامة حفل سنوي لإحياء ذكرى أبنائهم وبناتهم.

تمت رواية قصة إعدامات عام 1988 من قبل عائلات الضحايا من قبل. قامت محكمة شعبية برئاسة قضاة دوليين محترمين من لندن ولاهاي بالتحقيق في جرائم القتل في عام 2012 وتوصلت إلى إدانة القادة الإيرانيين في ذلك التوقيت بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ولكن الشريط الصوتي الذي ظهر على موقع «منتظري» يسمح للجمهور للاستماع لأول مرة إلى أصوات المسؤولين عن عمليات الإعدام وهم يناقشون إجراءاتهم.

أعضاء اللجنة

وكان أحد أعضاء اللجنة هو «مصطفى بور محمدي» الذي أصبح فيما بعد نائب وزير الاستخبارات. يشغل «محمدي» اليوم منصب وزير العدل في حكومة «روحاني». في الماضي، كان «محمدي» ينفي أي دور له في عمليات الإعدام الجماعية، ولكن الشريط الصوتي يظهر وجوده في الغرفة بينما يصفه «منتظري»، الرجل الثاني في النظام الإيراني آنذاك، أنه أحد أكابر المجرمين في التاريخ.

أحد الحاضرين أيضا هو «إبراهيم رئيسي»، نائب رئيس المدعي العام في طهران في ذلك الوقت. وهو الآن أحد المقربين من المرشد الأعلى «آية الله علي خامنئي»، الذي عينه مؤخرا لرئاسة آستان قدس رضوي، أكبر منظمة خيرية في البلاد، التي تدير ضريح الإمام الرضا في مشهد، وهو أكبر ضريح شيعي في البلاد. حتى أن بعض المراقبين يرشحه أن يكون خليفة محتمل للمرشد الأعلى.

أحد أعضاء اللجنة الآخرين الذين حضروا اجتماع «منتظري» هو «حسين علي نيري». في ذلك الوقت، كان «نيري» يشغل منصب قاض ديني في سجن إيفين في طهران، حيث تولى العديد من عمليات الإعدام. وكان بكل المقاييس هو أكثر أعضاء اللجنة تشددا وأفضلهم من وجهة نظر «الخميني» الذي رقاه في وقت لاحق. يشغل «نيري» اليوم منصب قاض في المحكمة العليا بعد أن كان نائبا لرئيسها لمدة عقدين من الزمان. وقد ظهر صوته في الشريط وهو يحاول تهدئة «منتظري» بالقول: «أود أن أؤكد لكم إذا كان أي شخص قيد المسؤولية فإن الأرقام الإعدامات سوف تتضاعف ثلاثة مرات».

لم يأت التسجيل على ذكر المرشد الأعلى «آية الله علي خامنئي». وعلى الرغم من كونه من الداعمين لفكرة إعدام المعارضين الداخليين للنظام إلا أنه لم يشارك مباشرة.

ووقعت مذبحة السجون تلك في عام 1988 مع نهاية العقد الأول من عمر الثورة الإسلامية التي شهدت إعدام واختفاء قرابة 120 ألف شخص. واستمعت محكمة دولية مرموقة إلى شهادات العديد من الناجين وأسرهم، التي فقد البعض منهم أكثر من قريب، وانتهت إلى إدانة النظام الإيراني بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

ولم يبد أي من الذين حضروا الاجتماع أي رد فعل منذ نشر الشريط الصوتي. ولكن «علي رزيني»، أحد قدامى رجال الدين البارزين في النظام الإيراني، صرح لوكالة فارس مبررا إعدام المعارضين بالقول: «كانت لدينا الشجاعة أن نضع توقيعاتنا على أوامر الإعدام. نحن فخورون بذلك».

إرث «الخميني»

في العام الماضي، ورغم توصل إيران إلى اتفاق مع الولايات المتحدة وغيرها من القوى العالمية لوقف برنامجها النووي، فإن سجلها في مجال حقوق الإنسان ازداد سوءا نظرا لأن المتشددين في السلطة القضائية صاروا يخشون من فقدانهم نفوذهم لصالح الجناح الأكثر اعتدالا في الحكومة. العديد من الصحفيين، فضلا عن عدد من يحملون جنسية مزدوجة، تم احتجازهم في السجون. صعدت إيران أيضا من وتيرة عمليات الإعدام. تقول جماعات حقوق الإنسان إيران أعدمت 230 شخصا على الأقل منذ بداية عام 2016، بما في ذلك 20 سجينا من الأكراد والسنة هذا الشهر وحده بتهمة «محاربة الله». «شيرين عبادي»، محامية حقوق الإنسان الإيرانية الحائزة على جائزة نوبل، وصف الإعدامات الأخيرة بأنها مؤشر خطر وأنها تذكرنا بإعدامات العقد الأول من الثورة. يذكر أن شقيق زوجها تم إعدامه في صيف عام 1988 بعد أن حكم عليه بالسجن 20 عاما لتوزيع صحيفة أسبوعية معارضة. وكان وقتها يبلغ من العمر 17 عاما فقط.

هدأت عمليات الإعدام الجماعية مع نهاية الحرب بين إيران والعراق ووفاة «الخميني». لكن العقد الذي قضاه آية الله في السلطة خلف إرثا داميا من الإعدامات والانتهاكات التي أقرها رجال الدين في السلطة القضائية، الذين لا يزال بعضهم لا يعبأ كثيرا بوجود دماء آلاف المعارضين السياسيين على أيديهم.

  كلمات مفتاحية

إيران الخميني منتظري خامنئي الثورة الإيرانية إعدامات جماعية

BBC فارسي تنشر رسالة سرية لـ«الخميني» أيد فيها المصالح الأمريكية في إيران

«سليماني» يزعم: «الخميني» حكم بالدين الحقيقي بعد 13 قرنا من «إسلام الأمويين والعباسيين»

قائد «الحرس الثوري»: الأوضاع في العراق وسوريا واليمن تتقدم لمصلحة الثورة الإسلامية

«بروجيكت سينديكت»: أفول عهد «الثورة الإسلامية» وراء نجاح المفاوضات النووية

نهاية غير سارة لمشروع النهوض الشيعي!

نجل آخر شاه إيراني يدعو إلى ثورة تعيد الملكية البرلمانية في بلاده بدعم من «ترامب»

وثائق سرية.. خطط بريطانية لإصلاح النظام الإيراني قبل سقوطه بثورة شعبية