«جورج فريدمان»: الحرب التاريخية بين أوروبا والإسلام.. هل يستعيد العالم الإسلامي زمام المبادرة؟

الأحد 4 سبتمبر 2016 11:09 ص

لا بد من وضع أي مناقشة حول «الإرهاب الإسلامي» وقضية اللاجئين في سياق تاريخي أوسع. أحد الطرق لممارسة هذا النهج هي عبر التفكير في البحر المتوسط، الذي كان يلعب دورا مركزيا بالنسبة إلى الإمبراطورية الرومانية.

احتل الرومان ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وقاموا بخلق نظام سياسي واقتصادي متكامل وموحد خلفه. ومع تحطم الإمبراطورية الرومانية فقد انهار هذا النظام. وكانت نتيجة ذلك في النهاية هيمنة المسيحية على الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، في حين هيمن الإسلام على شواطئه الجنوبية.

بمرور الوقت، تمدد كلاهما إلى خارج حوض البحر الأبيض المتوسط. تمددت المسيحية إلى الشرق (روسيا) وإلى شمال جبال الألب (ألمانيا وبريطانيا والدول الإسكندنافية). توسع الإسلام بشكل كبير إلى الجنوب في أعماق إفريقيا وإلى الشرق (في حوض المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي).

وظل البحر الأبيض المتوسط ​​ هو مركز الثقل في العلاقة بينهما ما هو اليوم

السنوات الأولى للمسيحية والإسلام

كان القرن الرابع وقتا حرجا بالنسبة إلى المسيحية. تحول «قسطنطين» إلى المسيحية وأعلن بيزنطة (إسطنبول اليوم) روما الجديدة. كان صعوده دمويا، استخدم الإمبراطور الروماني الدين المسيحي للحفاظ على تماسك ما تبقى من الإمبراطورية. وجاء اختياره لبيزنطة في محاولة للسيطرة على الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط عبر حملهما على معتقد واحد.

منذ البداية، كانت المسيحية دينا وقوة سياسية على حد سواء، على الرغم من أنهما لم يكونا أبدا متحدين في كيان واحد. انقسمت المسيحية بين كنائس إقليمية ذات مذاهب مختلفة. كان الانقسام الأساسي بين الكنيسة الرومانية والكنائس الأرثوذكسية في الشرق.

ظهر الإسلام بعد 300 عام في شبه الجزيرة العربية. كان الإسلام دينا سياسيا كذلك يجمع بين العقيدة والقوة الإمبراطورية. انتشر الإسلام شرقا إلى بلاد فارس وغربا إلى الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، حيث حل محل معظم المناطق المسيحية المجزأة.

بعد بضعة قرون من وفاة النبي «محمد»، انقسم الإسلام ما بين المناطق الشيعية في بلاد فارس ووادي الفرات، والمناطق السنية في الغرب، وجنوب البحر الأبيض المتوسط ​​بشكل خاص.

غزو الأراضي عبر البحر

واحد من الأكثر الممرات البحرية أهمية في منقطة البحر الأبيض المتوسط يربط بين تونس وصقلية. كانت الطريق البرية الرئيسية تمر على طول شرق البحر المتوسط عبر لبنان وما تعرف اليوم بـ(إسرائيل) إلى تركيا. الطريق الآخر كان يمر عبر الغرب عبر مضيق جبل طارق.

في وقت مبكر من القرن السابع، عبر المسلمون إلى أسبانيا ليبدأ الفتح الذي استمر إلى القرن الرابع عشر. بعد أن عزز المسلمون سيطرتهم على إسبانيا، قاموا بالضغط عبر جبال بيرينيه متجهين نحو بحر المانش، قبل أن يهزموا على يد قوات «شارل مارتل»، جد «شارلمان».

وضعت تلك الهزيمة الإسلام في موقف دفاعي، يكافح من أجل البقاء في أيبريا، وتحول التفوق النوعي لصالح المسيحيين. في بداية القرن الحادي عشر، أطلق الأوربيون سلسلة من الحروب تهدف إلى دفع المسلمين إلى الجنوب الشرقي. بعد فشل الحروب الصليبية في الحفاظ على الأراضي بين تركيا ومصر، تحولت الدفة من جديد إلى المسلمين.

سيطر العثمانيون على القسطنيطينية في القرن الخامس عشر. قبل أن يشرعوا في التوغل إلى شمال غرب أوروبا عبر مزيج من القتال المباشر والتحالفات مع المسيحيين المنقسمين.

سيطر العثمانيون وحلفاؤهم على البلقان وسيطروا على بودابست واندفعوا غربا نحو فيينا حيث تمت هزيمتهم. ورغم ذلك فإنهم حافظوا على سيطرتهم على أجزاء من البلقان حتى بعد الحرب العالمية الأولى. ولا يزال السكان المسلمون في ألبانيا والبوسنة شاهدا على آثار هذه الفترة.

استمرار الحروب في العصر الحديث

في القرن التاسع عشر تحولت المبادرة إلى الأوربيين الذين شنوا هجماتهم على شمال أفريقيا. استولى الفرنسيون على الجزائر في عام 1827 ثم تونس عام 1881. وهيمنت بريطانيا على مصر عام 1882.

بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية، هيمت بريطانيا بشكل مباشر أو غير مباشر على شبه الجزيرة العربية والعراق وفلسطين، في حين سيطرت فرنسا على لبنان وسوريا. الأهم من ذلك أن الأوربيين نجحوا في السيطرة على حوض البحر المتوسط بضفتيه للمرة الأولى منذ عهد الإمبراطورية الرومانية.

عندما هزمت فرنسا وإيطاليا وضعفت بريطانيا بشكل شديد في الحرب العالمية الثانية، خسر الأوروبيين السيطرة على شمال أفريقيا. وبعد أن رفضت الولايات المتحدة محاولات بريطانيا وفرنسا و(إسرائيل) للسيطرة على قناة السويس عام 1956، فقد الأوربيون نفوذهم في حوض البحر المتوسط الجنوبي.

تسبب هزيمة بريطانيا للإمبراطورية العثمانية في تجزئة العالم الإسلامي. وتسبب هذا التشرذم في اضطراب هائل بعد أن دمرت أوروبا بعضها خلال الحرب العالمية الثانية.

منذ ذلك الحين، تحولت المبادرة من جديد إلى المسلمين. في البداية بدوا وكأنهم يتصرفون كأن أوروبا لا يزال تهيمن عليهم، قبل أن يعلقوا في الحرب الباردة بين الأمريكيين والسوفييت.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأ الحقائق الكامنة وراء العالم الإسلامي في الظهور من جديد تماما كما أن الواقع في جنوب شرق أوروبا قد عاود الظهور عندما ضعفت الدولة العثمانية.

البعث الإسلامي

لا يزال العالم الإسلامي مضطربا، في حين يكافح الحد الأدنى القوات الأمريكية والروسية للحفاظ على بعض النظام في شرق المتوسط. ومع ذلك، فإن هذه الجهود تبدو تافهة بالمقارنة مع ضخامة الوضع.

هذا هو واحد من التحولات الدورية التي تجري بين الإسلام والمسيحية، وبين شمال أفريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط ​​من جهة وأوروبا من جهة أخرى. ومنذ ما يقرب من 500 عام، كانت الميزة الدائمة التي يتمتع بها الإسلام هي سيطرته على إسطنبول.

إننا نشهد حركة السكان الهائلة الناجمة عن الفوضى في العالم الإسلامي. ترجع هذه الاضطرابات إلى انهيار قوة أوروبا في المنطقة، كما أنها تنبع من الصراع الكامن حول إعادة بناء الهياكل السياسية الإقليمية والتعامل مع المعارك الداخلية.

الاضطرابات الحالية لا تختلف عن الفوضى في البلقان التي استمرت لفترة طويلة بعد رحيل العثمانيين. ويمكن لهذه الأمور أن تستمر لعدة عقود، أو ربما قرون، قبل أن يتم فرزها.

الهجمات الإرهابية في أوروبا هي أيضا جزء من هذه العملية. هناك نسخ عديدة تتقاتل داخل الإسلام، وسوف تمتد هذه المعركة إلى أوروبا كما فعلت على مدار أكثر من ألف عام. وكما امتدت الخلافات الأوربية أيضا لتلقي بظلالها على شمال إفريقيا.

حرب الألف عام

تجلت الوحدة الأوربية في أفضل صورها عندما كان الأتراك على أبواب فيينا وكان جنوب شرق أوروبا تحت سيطرتهم. كذلك كان الشمال الإفريقي أكثر استقرارا عندما سيطر على الأوروبيون عليه.

لكن الأوروبيين يفتقرون إلى القوة والرغبة في السيطرة على شمال أفريقيا، والمسلمون قادرون فقط على شن هجمات أشبه بوخز الإبر كتلك العمليات «الإرهابية». استمرت السيطرة العثمانية على أوروبا لأربعة قرون وهي ذات الفترة التي امتدت خلالها الحروب الصليبية. حوض البحر الأبيض المتوسط ​​ليس مكانا تتم تسوية الأمور فيه بسرعة كبيرة.

هناك حديث عن حرب طويلة تستمر لعقود. وهي ذاتها تلك الحرب التي استمرت على مدار أكثر من 1300 عام. ولكنها لم تكن مجرد حرب. كان هناك تعاون الاقتصادي، وتحالفات سياسية عبر الأديان وفساد يكفي لملء العديد من الكتب. وهي علاقة حميمة يربطها البحر المتوسط، إلا أنها علاقة سيئة أيضا حيث يرى كلا الجانبين نفسه من موقع الضحية.

من المهم أن نضع في الاعتبار أوجه الشبه بين جانبي البحر الأبيض المتوسط. تشترك المسيحية والإسلام في أن كلا منهما من الأديان السياسية وأن كلا منهما له تاريخ من الصراعات الداخلية والمغامرات الخارجية. كما أن كلا منهما يحمل التزاما تجاه صحة معتقداته وبطلان معتقدات الآخرين.

ومع ذلك فإن كلا جانبي المتوسط دخلا معا في علاقات تجارية وتحالفات عبر الخطوط الدينية، كما دخلا أيضا في حروب مريرة. كلا الطرفين يحمل مخاوف من الآخر. بالنسبة للمسلمين، فإن ذكريات الحروب الصليبية لا تزال تولد الخوف. على الجانب المسيحي، فإن هناك دعاء شهير يعود إلى العصر العثماني نصه: «اللهم احفظنا من الشيطان والمذنبات والأتراك».

من الواضح أن ما كتبته الآن يمكن أن يعد تبسيطا مخلا للتاريخ ولكن هدفه هو إظهار حلقات الاتصال. وأنا لا أتبنى تلك الرؤية القائلة أن فهم الطرف الآخر سوف يؤدي إلى السلام. على العكس من ذلك، فأنا أذكر القراء أن هناك صراع مستمر بين المسيحية والإسلام. في أي صراع، فإن فهم الذات والآخر بشكل صحيح هو مفتاح البقاء على قيد الحياة.

هذه واحدة من أقدم الحروب التي لا تزال نشطة في العالم، وهي الحرب بين الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. وهي قديمة بقدم الوقت الذي غادر فيه «هانيبال» قرطاج للذهاب إلى الشمال والإطاحة الرومان، ثم عودة الرومان إلى تدمير قرطاج.

نحن الآن نشهد الفترة التي تتحول فيها المبادرة من أوروبا إلى العالم الإسلامي. فقدت أوروبا سيطرتها على شمال إفريقيا والمشرق العربي وبدأت بعض آثار ذلك في الظهور عبر الهجرات السكانية والهجمات الصغيرة، ولكن الأمر لن يقف عند هذا الحد.

  كلمات مفتاحية

أوروبا الدولة العثمانية الحرب العالمية الإسلام المسيحية