استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

الأزهر والسلطة والتطرف

الأحد 15 يناير 2017 01:01 ص

يحتل الأزهر مكانة مرموقة في التاريخ المصري، الوسيط والحديث، السياسي والاجتماعي والثقافي، فقد اضطلع بدور كبير في قيادة الحركة الوطنية المصرية في مواجهة قوى الاستبداد، والاستعمار، وكان رافدا أساسيا من روافدها، أمدها بعديدين من رموزها، وعلاماتها البارزة، كما مثل مركز إشعاع حضاري وثقافي، كان له أبرز الأثر في صياغة السمت الإسلامي المصري، المعروف بوسطيته واعتداله، إلى جانب الدور الاجتماعي الذي لعبه الأزهر، بما كان لرجاله من نفوذ اجتماعي، جعلهم، في أحيان كثيرة، صوت المجتمع في مواجهة السلطة، ونقطة تجاذب بين الطرفين. 

وإلى جانب وظيفته العلمية الدينية، وكما يقول المؤرخ الكبير طارق البشري، جمع الأزهر بين وظيفتين متناقضتين في المجال السياسي، دعم السلطة وتجميع التمرد الشعبي من الرأي العام المثقف على السلطة نفسها، الأمر الذى جعله هدفا لهزات وصلت، فى بعض الأحيان، إلى حد الضربات الموجعة، من السلطة، استهدفت تحجيم دوره، وتقليص نفوذه، وتطويعه وإخضاعه لرغبات الحكام.

ظل الأزهر يقاوم تلك المحاولات التي لم تنقطع، حتى جاء الانقلاب العسكري الذي قام به تنظيم الضباط الأحرار في 23 يوليو/تموز 1952، وانطلاقا من مبدأ معاداة النظام الجديد وجود أي كيان سياسي، أو اقتصادي، أو اجتماعي، يحظى بقدر من الاستقلالية عن الدولة، وقيامه بعملية (تأميم) واسعة، متعددة المستويات، للمجال العام استهدفت ترويض المجتمع، وتكبيله، وإخضاعه للإرادة الفوقية لسلطة الدولة، قام النظام الجديد بـ"تأميم" الأزهر على عدة مراحل، بدأت بضرب استقلاله المالي بوضع الدولة يدها على أوقافه.

ثم إلغاء نظام الوقف الأهلي بالكلية، ثم إلغاء نظام المحاكم الشرعية عام 1955، ثم الخطوة الأخيرة بصدور القانون رقم 103 لسنة 1961 "تطوير الأزهر"، وكان بمثابة الضربة القاضية لاستقلال الأزهر المالي والإداري عن الدولة، حيث أحال القانون شيخ الأزهر إلى مجرد موظف حكومي، يعينه رئيس الدولة، بعدما كانت هيئة كبار العلماء تنتخبه.

وكانت المحصلة إدخال الأزهر دولاب الدولة، وانحسار دوره، وغلبة "السياسي" على "الشرعي" في مواقفه، حيث تم توظيفه سياسيا من السلطة، بهدف إسباغ الشرعية الدينية على توجهاتها السياسية من جهة، ومواجهة التمدد المتنامي لجماعات الإسلام السياسي، في المجالين الديني، والسياسي من جهة أخرى.

وهو ما أنتج حلقة مفرغة تمخضت عن الأزمة الصراعية الممتدة بين الدولة المصرية وجماعات الإسلام السياسي، ظل الأزهر يدور فيها، كونه إحدى ساحات المواجهة بين الطرفين، ومحاولة كل منهما استخدامه سلاحا لضرب الطرف الآخر، ما أدى إلى توظيف السلطة له، ومزايدة تلك الجماعات عليه، وطعنها في مصداقيته، باعتباره بوقا للسلطة.

تزامن هذا مع ظهور التيار السلفي، ذي الجذور الحنبلية الوهابية، فاعلا جديدا صعد وتمدد سريعا في المجال الديني، أسس وجوده على الطعن في شرعية الأزهر ممثلا للإسلام الوسطي، من منظور تراثي، بحكم أن جذور الأزهر أشعرية صوفية، باعتباره معقل الأشاعرة الخصم التراثي التاريخي للحنابلة، حيث استبطن الهجوم على الأزهر محاولة لتصفية حسابات تراثية قديمة، أخرجها "متنطعون" من كهوف التراث، وقبور التاريخ (!). 

جدير بالإشارة في هذه النقطة، وفقا للمؤرخ طارق البشري، أن مشيخة الأزهر ظلت حكرا على الشافعية والمالكية، حتى كان الشيخ المهدي العباسي أول شيخ حنفي تقلد مشيخة الأزهر، في عهد الخديوي إسماعيل، ثم الشيخان حسونة النواوي وعبد المجيد سليم وغيرهما، إلا أن مشيخة الأزهر لم يتولها قط حنبلي المذهب، رغم أن المذهب الحنبلي يدرس في الأزهر. 

مع تزايد وتيرة عمليات العنف والإرهاب أخيرا، ارتفعت أصوات، وهبت حملات، استهدفت الأزهر ونظامه التعليمي ومناهجه الدراسية، وجهت له اتهامات بشكل ضمني حينا، وصريح أحيانا، بأنه أحد أسباب انتشار التطرف والإرهاب، مطالبة بضرورة إعادة النظر في المنظومة التعليمية للمؤسسة الأزهرية بصورة جذرية، وتجديد خطابه الديني، وتنقيه تراثه، بما يجعله مواكبا للعصر (!). 

وإذا أمعنا النظر في هذه الاتهامات، لوجدنا مدى تهافتها، وأن الغرض فيها يغلب على الإخلاص، تحمل ابتزازا مرذولا، ومزايدة مفضوحة، تكذبها وقائع التاريخ وحقائقه، فالأزهر الشريف مؤسسة عريقة، تجاوزعمرها الألف عام.

وطوال تلك القرون الطوال التي شهد الأزهر في أثنائها موجات من المد والجزر، والازدهار والانحسار، لم تعرف مصر أي ظهور للفكر التكفيري العنيف. وحتى في فترات وقوعها تحت الاحتلال الأجنبي، ما عرفت مصر التطرف، ولم يجرؤ عتاة المستشرقين على رمي الأزهر بنشر التشدد، في حين أن الفكر التكفيري الذي يتخذ من العنف منهجا وسبيلا، لم يظهر في مصر إلا في سبعينيات القرن العشرين في خلية "الفنية العسكرية" عام 1974، وكانت أول تنظيم تكفيري يظهر في مصر منذ الحملة الفرنسية.

ومنذ ذلك الحين، وطوال هذه العقود التي شهدت صدامات مدوية بين الدولة المصرية وجماعات الإسلام السياسي، لم يثبت مطلقا إدانة أزهري واحد بممارسة العنف والإرهاب. والأدهى أن صفوف القيادات العليا والوسطى في جماعات العنف الديني التي مارست الإرهاب، لم تضم أزهريا واحدا، وإنما تخرجت قياداتها في كليات علمية، ونظرية من جامعات حكومية، بل تخرج بعضهم في كليات عسكرية، وهو ما يجعل المنظومة التعليمية الحكومية، هي الأحرى، بإعادة النظر والمراجعة. 

كان الأزهر، وما زال، يمثل منارة للوسطية، وعنوانا للاعتدال في العالم الإسلامي، كما أنه يعد أكبر أدوات القوة الناعمة لمصر، والتي تعرضت، أخيرا، لحالة من تدهور قدرتها، وتآكل فاعليتها، فيكفي، هنا، أن نعرف أن الأزهر يضم طلبة من أكثر من 80 دولة، ترسل أبناءها للتعلم في رحابه، كما يكفي أن ننظر إلى مظاهر الحفاوة والترحيب التي يحظى بها شيخ الأزهر في زياراته الخارجية. 

تكمن المشكلة في عدم إدراك الدولة المصرية أن تقوية الأزهر قوة لها، وإضافة لرصيدها، وأن إضعافه ضعف لها، وخصم من رصيدها، ومن قدرتها على التأثير في محيطهيا، الإقليمي والدولي، فمنذ "تأميم" الدولة الأزهر، ضعف أداؤه، وغاب دوره، وفقد مصداقيته، وهو ما أفرغ المجال واسعا أمام خطاب ديني مواز، غلب عليه طابع التنطع، والتشدد، فضلا عن المكايدة، والنكاية، للخطاب الديني "الدولتي".

يمر الإسلام السياسي، بشقيه السلمي والعنيف، بحالة من الانكسار، والانكشاف سياسيا وأخلاقيا، بعد الأخطاء الفادحة التي وقع فيها الإسلاميون بعد الربيع العربي، وهو ما يستدعي بإلحاح استعادة الأزهر دوره، وعودته مجددا إلى صدارة المشهد الديني، وتمثيله خطاب الاعتدال، والوسطية الإسلامية الذي مثله عبر تاريخه الطويل، من أجل مواجهة موجات التنطع والتشدد المتلاحقة.

ولن يستعيد الأزهر دوره، إلا بتحريره من القبضة "الدولتية" الأمنية، واستعادته استقلاله المالي والإداري، فهذه هي الخطوة الأولى في مسار إصلاحه، وتجديد أطروحته العقدية والفكرية، ولن تؤتي هذه الخطوة أكلها، إلا في إطار أوسع وأشمل من الإصلاح، وإعادة الهيكلة، يستهدف إعادة التوازن إلى علاقة الدولة بالمجتمع بمصر، بما يعني تحرير الثاني من قبضة الأولى.

* أحمد طه - باحث وحقوقي مصري

  كلمات مفتاحية

مصر الأزهر السلطة التمرد الإرهاب العنف الربيع العربي