هل يمكن صناعة حاسوب يحاكي هندسة العقل البشري؟

السبت 18 فبراير 2017 11:02 ص

منذ أكثر من مائتي سنة، قام نساج فرنسي يسمى «جوزيف جاكار»، باختراع طريقة سهلت إنتاج النسيج بشكل خيالي، وقد استبدل اختراعه هذا الصبية الصغار الذين كان عليهم أن يختاروا أي الخيوط يلقّمونها للمغزل، لتوليد نسيج له شكل معين، بسلسلة من البطاقات التي تحتوي على ثقوب تحدد موضع كل غرزة.

 وقد كان الجهاز ناجحاً جداً لدرجة أنه تم إعادة هيكلته ليكون في الواجهات الحاسوبية الأولى، فقد قام المبرمجون بوضع الأكواد مثل النساجين، مستخدمين شبكة من البطاقات المثقبة.

كيف جعلنا الحواسيب أكثر بشرية؟

المعلومات كانت آنذاك موضوعة في أكواد، لا يستطيع إلا الخبراء فهمها، لكن الواجهات الحاسوبية التي تلتها كانت أكثر تلقائية ومرونة، الآن أصبح بإمكاننا أن نتحدث إلى الخوادم الصوتية مثل «سيري» ونطلب منها أن تبحث لنا عن شيء على الإنترنت، أو تتصل بشخص، أو نطلب من «أمازون إيكو» أن تعد لنا كوباً من القهوة.

كي نسهل تعاملنا مع الحواسيب، طورناهم بحيث يكونوا أشبه بنا.

في بواكير تاريخ الذكاء الاصطناعي، توصل العلماء إلى ما سمّي بـ«مفارقة مورافيك»، المهام التي تبدو شاقة علينا، مثل الحساب، هي سهلة على الحواسيب، أما تلك التي تبدو سهلة علينا، مثل التقاط صوت صديق في حفل صاخب، فإنه كان شيئاً صعباً على الذكاء الاصطناعي.

ليس من الصعب تصميم كمبيوتر قادر على هزيمة البشر، في لعبة تعتمد على القواعد مثل الشطرنج، فالآلات المنطقية يكون أداؤها جيداً في الأعمال المنطقية، لكن المهندسين لم يبنوا بعد روبوتاً قادراً على لعب الحجلة.

عالم الروبوتات النمساوي «هانز مورافيك»، خرج بنظريته التي قالت إن هذا له علاقة بالتطورية، فالمنطقية في البشر لم تتطور منذ زمن بعيد كقدرة تحديد المكان أو الرؤية، ولهذا تقوم الدوائر في أدمغتنا بفعل هذا بشكل لا واعي، أما طريقة تفكيرنا فقد كانت معتمدة على المنطق، لأنه كان أول صورة من المنطق البيولوجي الذي ندركه.

مع إن الحواسيب دائماً ما يتم تشبيهها بالعقل، إلا إنها تعمل بشكل مختلف عن بيولوجيا الإنسان، فالتركيب الهندسي لمعالجة الكمبيوتر والتي يتم استخدامها حتى الآن، تم وصفها من قبل جون «فون نيومان» وزملاؤه في 1945، واللاب التوب الحديث يشبه بطاقات الماضي، مع إن المهندسين تركوا الورق إلى إشارات إلكترونية بشكل كامل.

عبقرية الهندسة العصبية في المخ

في آلة «فون نيومان»، كل البيانات يتم معالجتها في وحدة المعالجة المركزية في سلسلة منتظمة من الأصفار والآحاد، وبالرغم من وجود حواسيب متعددة الأنوية تسمح بمعالجة على التوازي، فإن كفاءتها لها سقف، إذ يتوجب على مهندسي البرمجيات تصميم هذه التيارات من المعلومات بشكل يمنع حدوث أخطاء كارثية في النظام.

أما في الدماغ، فالأمر يناقض ذلك، فالبيانات تجري في نفس الوقت، عن طريق مليارات المعالجات المتوازية، وهي تتصل عن طريق لغة ثنائية من الإشارات الكهربية مثل الكمبيوتر، الفرق هو في كون كل خلية عصبية مبرمجة بشكل مسبق، كي تشارك حوسبتها مباشرة مع الهدف المطلوب، دون الحاجة لجهاز معالجة مركزي.

فكر في البصر مثلاً، نحن نشعر بالعالم عن طريق مجموعة من ملايين مستقبلات الضوء، كل منها يلعب دوراً صغيراً وخاصاً في تمثيل صورة عبر النشاط العصبي، وهي تقوم بذلك عن طريق التسلسل الهرمي لمناطق الدماغ.

أما كمبيوتر «فون نيومان»، فيتوجب عليه أن يرسل نفس كمية البيانات، بالإضافة إلى إرشادات لمعالجتها، عن طريق نواة منطقية واحدة، وبالرغم من كون دوائر الكمبيوتر تنقل البيانات أسرع بكثير من التشابكات العصبية للدماغ، إلا إنها تستهلك طاقة ضخمة لفعل ذلك.

رقاقات شبيهة بالأعصاب

في عام 1990، قام المهندس الأسطوري «كارفر ميد» بالتنبؤ بشكل صحيح أن الكمبيوترات الموجودة في عصرنا الحالي، سوف تستخدم طاقة أكثر مما يستلزمه الاشتباك العصبي في الدماغ، بعشرة مليون مرة، لنقل أمر واحد.

الذكاء الاصطناعي يدين بكثير من نجاحه الحالي للمواد المحاكية البيولوجية، فالتعليم العميق على سبيل المثال، والذي تعتمد عليه تقنيات مثل ترجمة جوجل، والخادم الصوتي «سيري»،يستخدم عدة طبقات معالجة مترابطة، وقد تمت نمذجته بناء على طبقات الخلايا العصبية التي تشكل قشرة المخ.

في مارس/أذار الماضي تمكن برنامج ابتكرته جوجل ويسمى «ألفا جو»، من هزيمة بطل العالم في لعبة «جو»، ولكن هذا لم يحدث إلا بعد أن تدرب على قاعدة بيانات تحتوي على 30 مليون حركة، مستخدمة ما يصل إلى مليون واط.

ومنذ سنوات عديدة أيضاً، تمكن محاكي المخ الذي ابتكرته جوجل، من تعليم نفسه كيفية التعرف على القطط في فيديوهات يوتيوب، باستخدام 16 ألف معالج ، أما الآن، فالشركات تحاول إمداد أجهزتنا الشخصية بالذكاء، كي يستطيع هاتفك الذكي مثلاً التعرف على أفراد عائلتك، ويتوقع حالتك المزاجية، أو يقترح تعديلاً على أدويتك، ولهذا يتوجب عليه أن يتجاوز الخوارزميات التي يعتمد عليها الآن.

المهندسون تسابقوا لطرح رقاقات، سميت بالرقاقات الشبيهة بالأعصاب، لاستخدام المستهلك، وقد كشفت المجموعة البحثية كوابينا بوهين، من جامعة ستانفورد، عن رقاقتها في 2014، كما أعلنت شركة كوالكوم، أن المعالج الخاص بها والمستوحى من المخ سوف يصل إلى الأسواق في 2018.

خلايا عصبية سيليكونية.. تتحد كي تصل لقرار

هناك نموذج آخر لشركة آي بي إم، يسمى «ترو نورث»، والذي تحول مؤخراً من نموذج تجريبي، إلى منتج قابل للاستخدام، وهو يتكون من ملايين الخلايا العصبية السيليكونية، والأنوية الصغيرة، التي تتصل مباشرة ببعضها البعض.

كل خلية عصبية سيليكونية هي برنامج ووحدة معالجة، والبيانات الحسية التي تستقبلها الرقاقة، تنتشر في الشبكات المتشابكة الخاصة بها، بدلاً من السير في طريف ذي مسار واحد، وفي نهاية المطاف تصل الرقاقة إلى قرار، مثل تصنيف النبرة العاطفية في صوت مستخدمها، عن طريق التصويت على هذا القرار، بنفس الطريقة التي تغني بها مجموعة من الأشخاص المنفردين، في أغنية جماعية واحدة متناسقة.

الشركة تقول إن هذه الرقاقة تفيد في التعرف على الأنماط، مثل معالجة حديث ما، أو تصنيف الصور، لكن أكبر إنجاز لها هو كفاءة استخدام الطاقة: حيث تستخدم 20 ميللي واط، للسنتيمتر المربع، أي أقل بـ1000 مرة من الرقاقة التقليدية.

لا تحاكي الكمال فقط.. بل الفوضى كذلك

«ترو نورث» صممت أيضاً لتحاكي بعض الفوضى في الدماغ، فالحياة كانت تتقدم مع وجود بعض القصور، لعدة مليارات من السنوات الماضية، بصر وسمع محدودان، وهكذا.

وبالرغم من استشعار العالم عبر مستقبلات محدودة، إلا إن الكائنات تمكنت من التكيف بدقة بالغة، وما يبدو أنه نقص، قد يصبح ميزة من وجهة نظر حسابية، فالعشوائية قد تضيف كثيراً للقوة الحاسوبية للخوارزميات الاحتمالية، مثل تلك التي يحتاجها الذكاء الاصطناعي.

تقوم آي بي إم تقوم الآن بتطوير رقاقة أخرى تحقق نفس الهدف، بشكل أفضل، باستخدام مادة تتحول من عدم التبلور إلى التبلور، مع درجة من العشوائية، وهذا هو جوهر التحول المفاهيمي الذي يحدث في مجال الحوسبة: فالمهندسون سوف يستغلون الخصائص الحاسوبية للمادة، بدلاً من حمايتها من النقص فيها، كما فعلوا مع البطاقات المثقوبة، المادة لن تقوم بالحوسبة، بل ستكون الحوسبة بذاتها.

الشبكات العصبية الحاسوبية كرسومات كرتون بالنسبة للمخ

هذه التصميمات جميعها تبدو مجرد رسوم كرتونية بالنسبة لعلماء الأعصاب، الذين ما يزالون يقفون أمام المخ، كسر غامض مغطى بالحجب، لكن، حتى لو لم تكن تعكس الواقع البيولوجي بشكله الحقيقي، فإن النجاح الحالي للذكاء الاصطناعي يشير لكونها رسومات كرتونية ناجحة.

بالطبع قد تعزز فهمنا للمخ أو تتحداه، أو ربما تكمن قوتها في بساطتها، فقد قالت «إيف ماردر»، عالمة الأعصاب في جامعة برانديز، أنه بزيادة التفاصيل في نماذجنا، تزداد فرص حدوث الأخطاء، ذلك مثل تعقيد علم الأعصاب، ومدى جهلنا إزاءه.

الإخلاص الصارم في المحاكاة قد لا يكون ضرورياً، فرقاقة «ترو نورث» على سبيل المثال، لا يمكنها أن تتعلم لوحدها، وإنما يجب ضبطها لمهمة معينة بتشغيل الذكاء الاصطناعي على كمبيوتر تقليدي.

من قال إن كل خاصية للمخ تستحق التقليد؟ خوارزميات الأذهان البشرية ليست مثالية بالضرورة، وكما أوضح «داروين»، فإن التطور ليس حركة نحو الكمال بشكل مستمر.

  كلمات مفتاحية

ذكاء اصناعي حواسيب ذكية العقل البشري