قصص «الروهينغا» في الشتات.. أرواح متعطشة إلى تراب الوطن

الأربعاء 1 مارس 2017 05:03 ص

ما يزال ينزف منذ عقود جرح مسلمي «الروهينغا» في إقليم أراكان غربي ميانمار؛ إذ يتعرضون لإبادة جماعية وتُحرَق قراهم ومساجدهم ومنازلهم المتواضعة، ويُقتَل أطفالهم وتغتَصَب نساؤوهم، ويُساقون عُنوَة إلى مخيماتٍ غير آدمية يُحبسون فيها بين أحضان الجوع والحرمان.

تاريخ دموي

منذ أن نالت ميانمار (بورما سابقًا) استقلالها في أربعينيات القرن العشرين، تتواصل المذابح والتهجير القسري بحق المسلمين من عرق «الروهينغا»، فضلا عن الهجرة العكسية الرامية إلى تغيير الهوية الديموغرافية بجلب البوذيين وتوطينهم في أحياء المسلمين.

في عام 1982 أقرت سلطات ميانمار ما يعرف بقانون الجنسية الذي ينزع عن مسلمي «الروهينغا» وطنيتهم ويعتبرهم دخلاء، رغم أن أراكان كانت مملكة إسلامية احتلها البورمان سنة 1784م، وكان المسلمون حينئذ يشكلون 100% من نسبة سكانها.

تحت الاحتلال البورمي، تعرضت أراكان لموجات من الاضطهاد والتغيير الديموغرافي، حتى أصبحت نسبة المسلمين عند استقلال بورما عن بريطانيا عام 1948م، حوالي 80%، ومع المجازر والتهجير القسري أصبحت نسبة المسلمين أقل من 15% عام 2012، ومنذ ذلك الوقت تصاعدت بشكل موجات العنف غير مسبوق وتزايدت معدلات هجرة المسلمين، حتى أنه منذ أكتوبر 2016 فقط فر أكثر من 60 ألف مسلم من «الروهينغا» إلى بنغلاديش.

سعداء الحظ

في ظل هذا الواقع البائس يقول البعض إن سعيد الحظ هو من فرّ بحياته إلى مخيمات اللجوء والشتات،  لكن إلى أي مدى فعلا يطابق الواقع هذا القول، وما هي طبيعة الحياة التي يعيشها من فرَّوا بأرواحهم من أراكان إلى مخيمات اللجوء وبلاد المهجر؟ وكيف هي مشاعرهم الإنسانية وحنينهم إلى  الوطن؟ ترى هل أصبح هؤلاء فعلا من سعداء الحظ أم زادتهم حياة اللجوء والشتات تعاسةً؟ كيف هو واقع هؤلاء المنسيين الغائبين عن أعين الكاميرات؟

نحاول أن نسلط الضوء على هؤلاء الذين يعيشون بأجسادهم في الشتات، لكن أرواحهم لا تزال متعلقة بتراب أراكان.. فأي حظ هذا الذي يمكنه أن يرد إليهم بعضا من ذكريات الطفولة وأنفاس الأهل وحكايا الوطن؟

طفولة تحت المقصلة

«ما زلت أتذكر طفولتي، لا زلت أتذكر كيف كانت أمي تربي الدجاج ولا يزال يتردد في أذني صياح الديكة في بيتنا الذي أخذه الجيش رغما عنا وطردنا»، هكذا بدأ معنا «عمر فاروق» كلامه وهو يُغالب الدموع، ويحكي لنا قصة سنواته الأولى في ميانمار، وكيف كانت طفولته.

يتابع «فاروق»، الذي يعيش حاليا في السعودية وينشط في مجال الإعلام للتعريف بقضية مسلمي «الروهينغا»: «ولدتُ في بلدة (كيوكتاو) وكانت الأشجار وحقول الذرة تحيط بنا من كل مكان، وكذلك النهر، إلا أنه وبرغم هذه البيئة الساحرة، لم يكن بوسعنا كأطفال مسلمين الاستمتاع بهذه الطبيعة أو حتى مجرد اللعب بحرية؛ خوفا من بطش البوذيين والجيش».

يضيف «فاروق» وهو يطلق العنان إلى ذاكرته محاولاً أن يكتم تنهيدة تخفي بداخلها حزنًا عميقًا: «تخيّل أن يكون مجرد الوصول إلى المدرسة فرصة نادرة! بعد رحلة معاناة من الرعب والضرب على يد البوذيين، حيث كنا نمر في طريقنا للمدرسة بقرى الراخين، في المدرسة لا بد وألا يكون اسمكَ يظهر هويتك الإسلامية».

ويختتم كلماته قائلاً: «نشأتُ وترعرعت على مشاهد القتل والتعذيب. كان هؤلاء البوذيون وقوات الجيش يقتحمون بيوتنا دون أية أسباب؛ يضربوننا ويعذبوننا، يختطفون المسلمين، كان كل شيء ممنوعًا حتى تلاوة القرآن الذي كنا نقرأه سرًا، حتى استولوا على منزلنا وطردونا منه».

تسليم الراية..من الأجداد إلى الأحفاد

أما «عطا أبوسامر»، الذي يعيش في السعودية أيضًا: «كان عمري يزيد قليلا عن 3 سنوات عندما هربنا إلى بنغلاديش. في تلك الليلة غادرنا المنزل سيرًا على الأقدام نحو الحدود البنغالية، وأتذكر جيدا كيف كانت أمي تحملني على ظهرها وتكرر تحذيرها لي بعدم البكاء خشية أن يشعر بنا حرس الحدود؛ أتذكر كيف كانت تلك المغامرة: أن تستقل أسرة أو عشرات الأسر قاربًا صغيرًا، ثم تقطع مسافات طويلة مشيًا على الأقدام بين الغابات؛ كثير من مسلمي الروهينغا ماتوا خلال رحلات الهجرة والفرار إما ضحية رصاصة غدر أطلقها حرس الحدود أو نتيجة التعب والإرهاق من المشي في الغابات».

يكمل «عطا» كلماته: «ولدتُ في بورما، وعندما اشتد الظلم فرَّت عائلتي، وأنا طفل صغير إلى بنغلاديش لنحو ثلاث سنوات، ثم انتقلنا إلى العيش في السعودية. لسنوات طويلة كانت أمي تحكي لي عن عقود الظلم التي تعرض لها مسلمو الروهنغيا في أراكان، وأننا كننا نعيش في قريتنا محاصرين من جميع الجهات؛ كان التنقل من قرية إلى أخرى لزيارة الأقرباء صعبًا جدًا، فبالكاد يحصل المرء على تصريح تنقل من المخفر، وبعد إشعار عمدة الحي، وطبعا كان بطش البوذيين مستمر، وليس هناك أي جدوى في رفع دعوى إلى الشرطة ضد أحد البوذيين؛ فالمسلم الروهنغي هو المجرم والمذنب دائما في نظرهم» .

وأضاف: «أسرتي كانت تحرص على أن تغرس في داخلي إيماني بقضية مسلمي الروهينغا، فكان أبي يصطحبني معه في كثير من الجلسات المتعلقة بالقضية، ويعلمني أن أظل أحمل في داخلي هم الوطن وأن أربي أولادي على أن لهم وطنًا اسمه أراكان سيستردونه يوما ما؛ وهذا ما أغرسه في أولادي فعلا حب وطنهم والعمل لأجل قضية أهله” فهذا واجب من هم خارج أراكان».

حكاية المساء: أحلام الوطن

من ماليزيا يقول «قطب شاه»، وهو باحث دكتوراه في مقارنة الأديان حُرِم من الالتحاق بكلية الهندسة في ميانمار لكونه ليس بوذيا، ما اضطره إلى السفر للدراسة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ثم إلى ماليزيا.

قصة «قطب شاه» بدأت قبل ذلك بكثير، إذ عاش وآلاف أمثاله من مسلمي الروهنغيا معاناة واسعة وحرمانًا من طفولتهم أو حقهم في التعليم أو دراسة ما يرغبون، وإذا كان يعيش في ماليزيا في مأمن من الاضطهاد، إلا أنه يقول إن روحه تقتل ألف مرة في اليوم وتنزف مع كل كل قطرة دم روهينغي تراق، ومع كل أنين صرخة لمسلم روهنغي أو مسلمة تغتصب، كل ليلة يروي على مسامع طفلته التي لاتزال في مهدها، محنة وطنها وأنهم سيعودون يوما إلى هذا الوطن المسلوب.

من المواقف التي رآها «قطب شاه» في بورما، يقول: «في يوم وأنا في المرحلة الثانوية، وبينما كنت اصلي الفجر في المسجد، حاصرت قوات الجيش المسجد واعتقلت كل من كان يصلي وقتها، واقتادتني حينها للعمل الإجباري وأعطوني صواريخ مستعملة وأجبروني أن أنقلها إلى مكان بعيد مشيًا على الأقدام، إذ كان يتم إجبار مسلمي الروهينغا على أعمال مشابهة، وكثير منهم لم يعودوا إلى بيوتهم».

الطب في خدمة «الروهنغيا»

في ألمانيا أيضا يعيش بعض من أبناء أراكان ومن هؤلاء الطبيبة «أمبيا برفين» وهي استشاري طب الأطفال، كما أنها مشاركة في مشروع طبي لصالح الروهينغا، وعضو المجلس الروهنغي الأوروبي، التي قالت: «غادرت أسرتي (أراكان) هربًا من الموت، وقتها كانت أمي في مرحلة حملها بي عندما انتقلت الأسرة إلى بنغلاديش ثم إلى باكستان حيث استقرت لفترة وولدت في كراتشي».

وأضافت: «إنها نعمة أن يكون لديك أسرة متعلمة وتعرف كيف تغرس في أبنائها حب الوطن، وهذا ما فعله أبي وأمي معي وأخواتي وكلنا الحمد لله طبيبات؛ لم ننس أراكان يوما بل نذهب إلى كل مكان في العالم ونشارك في الفعاليات من أجل أراكان».

وتستطرد «بروفين»: «المغتربون عن أوطانهم يتألمون من مجرد الغربة، فما بالك بالمهجرين قسرًا وليس في إمكانهم العودة، حتى أن أجيالًا ُولدتْ بعيدًا عن تراب (أراكان)، فرغم أنني أزور بلادا كثيرة، لكن تبقى للوطن مكانة خاصة، ففيه ترتدي ثيابك التقليدية وتتحدث لغتك المحلية، نعرف التاريخ من هناك من أرض الوطن».

وتردف الطبيبة: «إن الإنسان المُنصف هو من يرفض الظلم عامة ضد الجميع وهذا ما نطالب به العالم أن يتحرك لإنقاذ مسلمي الروهينغا الذي يعانون القتل والإبادة منذ عقود لمجرد أنهم يعتنقون دين آخر عن البوذية».

شوق إلى الجذور

في ألمانيا أيضا تقول الطبيبة «أنيتا علي» وهي المتحدثة باسم المجلس الروهينغي الأوروبي: «أنا أنتمي للأقلية الأكثر اضطهادًا في العالم إذ نتعرض للتطهير العرقي فبعدما كنا نحو خمسة ملايين إنسان أصبحنا أقل من مليون بفعل التهجير القسري والقتل».

وأضافت «علي»: «الجيش والبوذيون يحاولون محو كل تاريخنا كمسلمي الروهينغا يدمرون مساجدنا يغلقونها يقتلون الإنسان، كل يوم تواصل ميانمار السقوط إلى الهاوية».

وتحكي «علي»: «وُلدت في رانغون التي تسمى حاليا يانغون، لعائلة روهينغة غنية، درس أبي الهندسة الميكانيكية وخلال الدراسة لم يكن هو وزملاؤه يتمكنون من زيارة أقاربهم في أراكان خشية عدم السماح لهم بالعودة للدراسة».

وتضيف: «حتى في يانغون لم تسلم أسرتي من المضايقات، حتى اضطرت إلى الفرار وكان وقتها عمري أربع سنوات، وأتذكر جيدًا كيف كانت أمي تكافح للحفاظ علي فوق الماء خشية الغرق ونحن نستقل قاربًا متهالكاً، وكيف مكثنا لنحو ثلاثة أيام في الغابات بقليل من الطعام، على حدود بنغلاديش ثم توجهنا إلى باكستان، وكيف أخفينا هويتنا».

وتكمل «علي»: «بعدما التحقت بالمدرسة في باكستان كيف كان يتم نعتي بالبنغالية وكل مرة كان يناديني أحدهم بالبنغالية كنتُ أشعر بطعنة في قلبي، لكن أبي كان يذكرنا دائما أننا روهينغيون ويجب أن نعمل على مساعدة أهلنا وأن نكون صوت من لا صوت له».

وتشير علي إلى أنه «كما فعلت أسرتي أنا أفعل مع ابني البالغ من العمر سبع سنوات والذي بات يدرك مأساوية وضع الروهنغيا ويدرك أنه عندما يكبر ستكون لديه رسالة عليه القيام بها».

وتختتم «أنيتا» كلماتها بالقول: «لا يمكن أن ننسى رائحة الوطن، ونسيمه البارد وأنهاره وأشجاره. فأنا افتقد كل شيء في وطني العمات وأبناء العمومة، فالناس في أوروبا لا يحتاجون إليّ، لكن شعبي هو من يحتاج إليّ وأنا اشتقت إلى جذوري، لكني أخشى أن يبقى ذلك مجرد حلم».

المصدر | العالم بالعربية

  كلمات مفتاحية

روهينغا جراح قصص شتات