خطّة «فلاديمير بوتين» لقلب سياسة الشرق الأوسط

الثلاثاء 21 مارس 2017 11:03 ص

في واشنطن، كلّما برزت فكرة الاستقلال الكردي عن العراق، يعلن كلّ الخبراء والدبلوماسيون السابقون والمسؤولون أنّ ذلك «لن يحدث أبدًا». ودائمًا ما يأتي هذا التأكيد مدعومًا بتصريحات أنيقة حول مدى التحدّيات الخطيرة التي تواجه الأكراد في العراق، الأمر الذي يجعل إعلان الاستقلال «ليس عقلانيًا».

لكن تبقى احتمالية أنّ الأكراد العراقيين قد يقرّروا، ربما في المستقبل القريب، قرارًا عقلانيًا تمامًا. وترتبط هذه الفجوة بالاختلاف بين ما يعتقد المحلّلون أنّه ينبغي على الأكراد عمله، والطريقة التي ينظر بها الأكراد وقادتهم إلى العالم. وهي المشكلة التي قد تفاجئ المسؤولين الأمريكيين بأحداث «غير متوقّعة».

والنّقاش حول الأكراد هو واحد من الأمثلة حول هذا التفكير الذي يفتقر لليقين في السياسة الخارجية الأمريكية. وانظر إلى حالة إيران في سوريا، على سبيل المثال. كان من المفترض أنّ يكون الإيرانيون الآن قد اكتفوا من دعمهم لنظام «الأسد» بفعل الضّغوط المالية الناتجة  عن استمرار القتال. لكن لا يزال الإيرانيون هناك حتّى الآن.

وهناك الروس، الذين لم يكن من المفترض أن يتحركوا نحو شرق أوكرانيا وضمّ جزيرة القرم، بسبب محدودية القدرات الروسية والردّ العقابي المرجّح من الناتو. لكن حدث ذلك. ويقدّم الإيرانيون والروس إلى نظام «الأسد» دعمًا غير مشروط، ولم يتراجع الروس عن تدخّلهم في أوكرانيا، بالرّغم من العقوبات الغربية.

المفقود في هذا التحليل الأرعن حول السلوك المرجّح للآخرين هو الأفكار. وبالنّسبة للأكراد، توجد أفكار هامّة تدور حول الهوية. وفي طهران، لا يقيّم دعمها للأسد بالأمور المالية، بل بأفكار السلطة والنّفوذ حول الشكل الذي يجب أن يكون عليه الشرق الأوسط ومكانة إيران فيه. ويندفع الرئيس «فلاديمير بوتين» بالنظرة القومية واستعادة القوّة العظمى المفقودة.

وهذا هو السبب في إخفاق المحلّلين الغربيين والمسؤولين الأمريكيين، غالبًا، في تقدير أهداف روسيا، لاسيما في الشرق الأوسط. وحتّى مع وضوح التفكير الاستراتيجي لموسكو في الأشهر القليلة الماضية، لا يزال هناك شعورٌ ساري بين خبراء السياسة الخارجية أن نجاحات روسيا في المنطقة كانت نتيجة لحماقات غير عقلانية. وبسبب هذا التفكير حول افتقار «بوتين» للخطّة والموارد، تعامل الغرب والولايات المتّحدة بسلبية، أتاحت فرصًا جديدة للرّوس.

أفكار «بوتين»

ومع ذلك، لا يكمن تفسير سلوك موسكو في الشرق الأوسط في عدم رغبة إدارة «أوباما» في فهم نوايا موسكو في المنطقة. ففريق الرئيس «ترامب»، بالقدر الذي يهتم بفهم ما يفعله الروس، يخاطر بالوقوع في نفس الأخطاء الناتجة عن عدم فهم خطّة الكرملين في الشرق الأوسط والمجموعة المهمة والقوية من الأفكار التي هي مصدر إلهام له.

ويبدو «بوتين» من هذا النوع من الأشخاص الذي يحمل بداخله الضغينة. تلك الضغينة التي تجعله يسهر ليلًا يفكّر في كيفية الانتقام من الإذلال ليلة رأس السنة عام 1991. في ذلك المساء، الساعة 7:32 مساءً، نكّست المطرقة والمنجل من أعلى الكرملين، وهو الشعار الذي ظلّ مرفوعًا منذ عام 1923، وبعدها بـ 13 دقيقة، ارتفع العلم الروسي بدلًا عنه. ويبدو أنّ الرئيس الروسي القومي السوفييتي، يأخذ هذا على محملٍ شخصي، فقد كان ذلك مؤلمًا، لاسيما لقوميٍ روسيّ.

ولتزويد الطّين بلّة، منذ تلك اللحظة التاريخية، توسّع الناتو في الشرق، واحتاج الاقتصاد الروسي مساعدة المؤسّسات المالية الدولية للبقاء، لكنّ الولايات المتّحدة ألقت بثقلها كاملًا حول العالم دون اعتبار للمصالح الروسية، وكذلك قوّضت الثورة البرتقالية في أوكرانيا القيادة الموالية لموسكو لصالح قيادة جديدة موالية للغرب. ومن منظور موسكو، كان كلّ ذلك جهودًا أمريكية لتطويق موسكو وزعزعة استقرارها والتقليل منها.

لذا، منذ أصبح «بوتين» رئيسًا لروسيا الاتّحاديّة، كان يعمل وفق خطّة. وفي حين ركّز الأمريكيون على أفغانستان والعراق وحلّ الصراع العربي الإسرائيلي وتخفيض الضرائب والترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط وشهادة ميلاد «أوباما» وحزب الشاي وسقف الديون وإغلاق الحكومة، استطاعت روسيا إعادة بناء قدراتها العسكرية واستعادت عقيدتها القتالية. وفي الوقت نفسه، سعى «بوتين» لإعادة بناء هيبة موسكو عالميًا، وخاصةً من خلال ملئ الفراغات التي تركتها الولايات المتّحدة داخليًا وخارجيًا. وسمح ذلك لروسيا بإنشاء مناطق جديدة للنفوذ، وساعدها في ذلك الارتباك والاستقطاب وعدم الاستقرار الذي زرعته موسكو في الغرب من خلال شبكات التواصل الاجتماعي والأموال.

إرهاصات التحول

فماذا يعني كلّ هذا في الشّرق الأوسط؟ لم يكن ذلك قبل وقتٍ طويل حين كانت الولايات المتّحدة هي القوّة المهيمنة في المنطقة. ولا تزال كذلك بكثير من الطرق، نظرًا لاستمرار التأثير الأمريكي الدبلوماسي والعسكري والتجاري، وخصوصًا فيما يتعلّق بمبيعات الأسلحة. وحتّى مع ذلك، أعادت روسيا فرض نفسها كقوّة في المنطقة. وعلى الأقل، أصبحت دول الخليج العربية الموالية للولايات المتّحدة مدركة الآن ضرورة الأخذ في الحسبان مصالح روسيا وأهدافها. وهذا شيء لم يكن عليها فعله في الـ 25 عامًا الماضية.

ويرجع جزء كبير من هذا التحوّل في ديناميكيات القوّة إلى التدخّل الروسي في سوريا، والذي بدأ في سبتمبر/أيلول عام 2015، وهي العملية التي اعتقد المحلّلون الغربيّون أنها ستكون قصيرة الأجل وستأتي بالضرر على الجيش الروسي. لكن على عكس التحليلات، استمرّت روسيا في سوريا حتّى الآن، واستطاعت تحقيق الكثير من أهدافها، وأثبتت أنّها قوّة إقليمية لا يستهان بها، وذلك على العكس من الولايات المتّحدة التي لم تستطع تلبية تطلّعات حلفائها في المنطقة، الأمر الذي جعل دولًا مثل تركيا و(إسرائيل) تتحوّل إلى روسيا في سعيها لتحقيق أهدافها في سوريا. وكذلك استطاع بوتين الوصول إلى قضية مشتركة مع الإيرانيين، والذين يشكّلون، مثل الروس، مصدر إزعاجٍ للنّظام السياسي الإقليمي، الذي وضعته الولايات المتّحدة.

والمصريون الذين استفادوا بالمساعدات الأمريكية الاقتصادية والعسكرية الوفيرة على مدى الأعوام، يعتبرون روسيا بوضوح بديلًا عن الولايات المتّحدة. وذلك إلى الدّرجة التي جعلت الحكومة المصرية تعارض التدخّل الأمريكي في سوريا صيف عام 2013، بينما دعمت العمليات العسكرية الروسية هناك.

ولكي نكون منصفين، فقد أعطت الولايات المتّحدة المصريين سببًا كافيًا للبحث عن الدعم في مكانٍ آخر. ويحرص الدبلوماسيون والملحقون العسكريون المصريون في واشنطن على مراقبة السياسات الأمريكية. وقد بدأوا يقلقون في الآونة الأخيرة من الانعزالية التي أصابت الحزبين في الكابيتول هيل. ورأى المصريون أنّ هذه التطوّرات قد تؤثّر على المساعدات العسكرية السنوية بقيمة 1.3 مليار دولار التي يحصلون عليها من الولايات المتّحدة.

وهناك التّهمة الخاطئة التي يوجّهها المصريون أيضًا للولايات المتّحدة أنّها دعمت جماعة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من خلو هذه التّهمة من أي دليل واقعي، إلّا أنّها وفّرت الفرصة للقيادة الروسية لتوثيق علاقاتها مع مصر على أرضية مشتركة من مواجهة الإسلاميين.

ثمّ هناك ليبيا التي تلاقت فيها مصالح روسيا مع مصالح اللواء «خليفة حفتر»، العسكري الذي نصّب نفسه قائدًا للجيش الوطني الليبي. ويقاتل «حفتر» في حربٍ لا هوادة فيها على الإسلاميين وهو ما تلاقى مع توجّهات الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي» وولي عهد الإمارات الشيخ «محمد بن زايد». لكن هناك ما يجري في ليبيا خلف الحرب المعلنة ضدّ التطرّف. فليبيا لديها أكبر احتياطي مثبت من النفط الخام الحلو عالي الجودة في العالم. كما أنّ لديها وفرة من الغاز الطبيعي. وكلا الأمران يجعلان ليبيا مهمّة لدى أوروبا. ويفكّر الرّوس بشكلٍ واضح في المستقبل. قد ينتهي الأمر بـ«حفتر» رئيسًا جديدًا لليبيا، وحتّى إن لم ينجح في ذلك، سيظل مهيمنًا على السّلطة في الشرق، حيث يوجد الكثير من النّفط. وفي حين تبحث أوروبا عن وسائل لتقليل اعتمادها على الطاقة الروسية، تسعى موسكو لإبقائها تحت رحمتها.

وتدرك الآن الولايات المتّحدة وأوروبا مرّةً أخرى أنّ الروس لا يعودون لكنّهم لديهم أهداف واضحة، ويفهمون كيف يحقّقون تلك الأهداف وكيف توظف الموارد الوطنية للتوسّع في هذه العملية. وبعبارةٍ أخرى، كان الرّوس يفكّرون بطريقة استراتيجية. والسؤال هنا هو، ماذا يجب أن تفعل واشنطن وحلفاؤها حيال ذلك؟ في وقتٍ ما، كان التحدّي الروسي يعني تحالفًا أمريكيًا غربيًا للردّ عليه، لكنّ رئاسة «ترامب» قد وضعت هذه المسألة محلّ شكّ.

ويبدو «ترامب» ومستشاروه على أتمّ استعداد للشراكة مع الكرملين حول هدف محاربة «الإرهاب الإسلامي». لكن ما لا تراه إدارة «ترامب» أنّ وراء الهدف المشترك في محاربة التطرّف، فإنّ استراتيجية روسيا تذهب إلى أبعد من هذا الهدف المباشر. ويرغب «بوتين» في إعادة كتابة القواعد الحاكمة للشرق الأوسط وقلب النظام السياسي الإقليمي الذي أنشأته واشنطن لجعل الأمور أسهل وأقل تكلفة في الشرق الأوسط ولضمان أمن (إسرائيل) والتدفق الحر لموارد الطاقة في المنطقة ومحاربة الإرهاب ومنع انتشار الأسلحة النووية. هذه هي خطّة روسيا، بسهولة وبساطة.

  كلمات مفتاحية

روسيا بوتتين ترامب سوريا إيران حفتر مصر