استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

كيف تفوقت الجبيل وسقطت مدن أخرى

الثلاثاء 21 مارس 2017 01:03 ص

مؤخرا، أمضيت ثلاثة أيام في مدينة الجبيل الصناعية، بدعوة من الأصدقاء في الهيئة الملكية. قضيت خلالها وقتاً ممتعاً، متنقلاً بين مدينتها الصناعية والمنطقة السكنية، إذ استمتعت بمخططاتها السكنية وشوارعها الجميلة ومصانعها الشاهقة، والحياة الاجتماعية التي فيها، وبعد الزيارة خرجت محتاراً؛ عم أكتب؟ 

فكل زاوية فيها تحتاج إلى إعجاب وثناء، فهل أكتب عن مدارسها النموذجية، التي صممت وفق أعلى المعايير التربوية والتقنية، وعن أسلوب التدريس عالي الجودة واستخدام طلبتها الهواتف الذكية واللوحي (آيباد) بدلاً من الكتب الدراسية، وفصولها المتحركة، أم عن أسلوب وسائل نقل الطلاب من وإلى المدرسة، إذ يتم نقل الطلاب في وسائل نقل آمنة، وكل مكونات التعليم من كلية تقنية ومدارس ومعاهد تصب لمصلحة الشركات والمصانع الموجودة فيها، أم أتحدث عن شوارعها وبنيتها التحتية وشبكة تصريف مياه الأمطار وأغطية الصرف الموجودة على جنبات الطريق وليس في وسط الطريق كما اعتدنا أن نراها في المدن الأخرى، أم أتحدث عن الملاعب الرياضية المخصصة للشباب المنتشرة في المناطق السكنية، والحدائق الموجودة على مد البصر وما تضمه من وسائل ترفيه، أم أتحدث عن المساحات المخصصة لرياضة المشي في «الكورنيش» والدراجات الهوائية لمن يرغب، وهي توجد في أماكن مخصصة لمن يرغب في استئجارها، أم أتحدث عن المباني المطلة على الكورنيش وتدرجها في البناء، بحيث يسمح للجميع مشاهدة البحر ولا تغطيها عمارة أو مبنى لـ«شخصية نافذة» فيحتكر إطلالة البحر، أم أحدثكم عن التناسق الجميل في مبانيها التجارية وتصميماتها الدقيقة، التي تشعرك باعتزاز بأنك تنتمي إلى أسرة «المدينة الحالمة» بالتقدم والتطور.

أما في جانبها الصناعي، فإنك تشعر بهيبة المكان، لا تسمع إلا صوت الآلات والمعدات ولهب النار وهي تحترق، مشيرة إلى حال دوران حركة الصناعة، أم أحدثكم عن غرفة التحكم للنظام المروري، التي تعمل بطريقة ذكية وإلكترونية، والشيء الأجمل في شوارعها أن الناس يسيرون بسياراتهم بمسؤولية، لهذا لم تسمح الهيئة الملكية بوضع كاميرات ساهر في المدينة الصناعية والسكنية، كما أنك لن ترى سيارات الأجرة تجوب الشوارع والأحياء، فكل طلبات سيارات الأجرة تتم بواسطة التطبيقات الذكية والهاتف، أم أنقل لكم مشاعر الناس وهم مسرورون بهطول الأمطار وفرحتهم وخروجهم إلى المتنزهات والحدائق والوقوف على جنبات الطريق للاستمتاع بصوت المطر وهو يتساقط، أم أحدثكم عن نظام الكابلات الموصلة إلى المنازل لشبكات التلفزيون بدلاً من «الدشوش»، على رغم أنه خيار مفتوح، مع توفير أكثر من 60 قناة تلفزيونية، منها القنوات الرياضية المشفرة والمتنوعة من إخبارية وترفيهية وبرامج أطفال، بحيث تناسب كل الأذواق.

صراحة، ما ذكرته لكم كان على عجل، والجبيل اليوم تذكرني بمدينة تشانغ جيانغ الصينية في 2002، إذ وضعت حكومة الصين خطة استراتيجية هدفها بناء مدينة صناعية في منطقة تفتقر إلى المقومات الاقتصادية والاستثمارية أو حتى إلى البنى التحتية تمكنها من التحول من مدينة موحشة إلى مدينة عالمية، أو حديقة تشانغ جيانغ للعلوم والتقنية. كل يوان تخصصه موازنة الدولة للمنطقة، يجلب 14 يواناً من رأس المال الأهلي و12 دولاراً أميركياً من الاستثمار الأجنبي. الآن كثير من منتجات رقائق الكومبيوتر ومشاريع الاتصالات التي تحمل علامة «صنع في الصين» في الأسواق الأوروبية والأميركية، وأسواق جنوب شرقي آسيا، منشؤها بودونغ شانغهاي، التي تصدر منتجات ببليونات الدولارات إلى أرجاء العالم، وتوجد بها 16 هيئة وطنية للبحوث العلمية، وأقامت بها شركات IBM،GENERAI(CE)،INTEL وغيرها، مراكز لبحوث التطوير، ونحو 100 شركة للابتكارات و6 قواعد لـ«تفريخ المشاريع» الحديثة في أنحاء الصين.

سألت الرئيس التنفيذي للهيئة الملكية للجبيل الدكتور مصلح العتيبي، ما هي نظرتكم إلى المستقبل في ظل وجود سوق تنافسية في المنطقة لجذب الاستثمارات، فقال: «إننا نعمل الآن لتأسيس شركة تكون الذراع الاستثمارية للهيئة، بحيث تتولى إقامة المشاريع المختلفة وتسند إليها الأعمال الإنشائية، وتتفرغ الهيئة للإشراف على الجبيل الصناعية ورأس الخير، التي تم إسناد تشغيلها وإدارتها إلى هيئة الجبيل».

وأضاف: «إننا بصدد تنويع المشاريع الاقتصادية والصناعية، إذ إن هناك أربعة مصانع للسيارات في السعودية سيتم تدشينها، وهي مشاريع حقيقية وباستثمارات عالية تصل إلى بليونات الريالات».

واستطرد بالقول: «نحن بصدد إدخال صناعات جديدة في مجال الطاقة والتقنية، كما أننا نتجه إلى إحداث نقلة نوعية، بحيث تم الانتهاء من مركز مدينة الجبيل الصناعية الاقتصادي، بعد أن وضع الملك سلمان في زيارته الأخيرة حجر الأساس له، ويبلغ حجم استثمارات القطاع الخاص بنحو 600 بليون ريال، فيما أنفقت الهيئة لبناء بنيتها التحتية منذ إنشائها حتى العام الماضي أكثر من 62 بليون ريال».

وفيما يخص تملك المنازل للعاملين في مدينة الجبيل الصناعية، قال العتيبي: «أنفقت الهيئة أكثر من 25 بليوناً، وهذه واحدة من أهم المشاريع التي تجذب العاملين وتدفعهم إلى العمل في هذه المدينة، إذ إن الموظف، بعد عامين من التحاقه بالعمل في إحدى الشركات، يستطيع أن يتملك منزلاً بأقساط شهرية ميسرة».

شاهدت شباباً في مقتبل حياتهم يتملكون «فللاً» بمساحات كبيرة وفي مخطط حضري وراق، وهذا ما علمته من شباب التقيته على الكورنيش، إذ أخبرني أن سن الزواج في الجبيل الصناعية مبكر ومعظم الشباب يتزوجون مبكراً لتوافر عناصر الحياة والعيش الكريم؛ وظيفة ومنزل، وهذا ما يجعله يخطط لمستقبله في شكل جيد، خلافاً لبقية الشباب في المناطق الأخرى، إذ يتأخر نتيجة عدم الاستقرار الوظيفي وغياب السكن الملائم.

من الواضح أن فكرة الهيئة الملكية، التي جاءت قبل 40 عاماً في نظرة ثاقبة حينها من قيادة المملكة والعقول النيرة من الوزراء والمسؤولين الذين أشرفوا على تأسيسها ووضع لوائحها الأساسية، تهدف إلى بناء قاعدة متينة للصناعات في السعودية، والشيء المميز الذي جعل الجبيل الصناعية وشقها السكني تنفرد عن بقية المدن الأخرى، أنها لم تخضع للبيروقراطية في المؤسسات الحكومية من بلدية وصحة وتعليم وغيرها من الجهات الحكومية، التي حولت مدننا إلى حقول تجارب من أنظمة إدارية وموظفين، فالهيئة الملكية تفرض خطتها وتنفذ برنامجها بنفسها من دون تدخل أية جهة حكومية أخرى، فلا مكان للواسطات في افتتاح المصانع والشركات أو حتى تنفيذ المشاريع من طرق وجسور وغيرها، ولا مجاملة لمسؤول كبير لتمرير معاملته.

علِمت بأن القيادة السعودية منحت صكاً منفرداً باسم الهيئة الملكية، لهذا هي عن منأى من أي تدخل أو اعتداء على أراضٍ.

هيئة الجبيل أسندت إليها إدارة رأس الخير وهيئة ينبع أسندت إليها إدارة جازان الاقتصادية وهذه خطوة جداً ممتازة أن يتم إسناد إدارة هذه المدن إلى مؤسسة متخصصة مثل «الهيئة»، المهم ألا تتنازل عن المعايير التي وضعتها، الجودة والإتقان في تنفيذ وإدارة هذه المدن.

تجربة إدارة مدينة الجبيل من الهيئة الملكية هي تجربة ربما من الصعب تطبيقها في المدن الأخرى، لكون المعايير المطبقة والتي وضعتها «الهيئة» هي معايير وأنظمة عالية المستوى وتطبق بصرامة، من المستحيل أن تطبق داخل المدن، فالمحسوبيات والمجاملة والبيروقراطية لمؤوسات الدولة لا تسمح بتنفيذ العمل بإتقان، إلا أن ما ينقص هذه المدينة الجميلة والحالمة أنها منشغلة مع نفسها، ولم تخطط للتسويق عن نفسها، وبخاصة أن النموذج الحالي يعتبر أحد المدن الصناعية النادرة في منطقة الخليج والشرق الأوسط، فهي تحتاج إلى المزيد من التسويق الإعلامي والترويج عن نفسها، وبخاصة أن الشركات الأجنبية بحاجة إلى من يصل إليها ويعرّفها بالمميزات المطلوبة.

حجم الاستثمارات الموجودة في مدينة رأس الخير تدعو إلى الفخر، إذ تبلغ حجم استثمارات الهيئة الملكية فيها نحو 4.5 بليون ريال، إما استثمارات القطاع الخاص فتبلغ نحو 120 بليون ريال، كما بلغت قيمة الاستثمارات الصناعية 118 بليون ريال، وفي المشاريع السكنية نحو 1.8 بليون ريال. وقصة المشاريع السكنية في الهيئة الملكية بصراحة أحد أهم الإنجازات التي تحسب للهيئة، إذ أنفقت أكثر من 25 بليون ريال للمشاريع السكنية، وهذه التجربة الناجحة التي تجعل الموظف يعمل بنشاط وأمان، لأن مستقبل أسرته لا يشكل له قلقاً، لأنه بعد عامين أو ثلاثة سيصبح لديه منزل مستقل ويدفع أقساطه شهرياً ومن ثم يتملكه، وهذا المعيار يدفع إلى المزيد من الاستقرار الأسري وتقليص حالات الطلاق وبناء أسرة سعيدة تعيش مع والديها.

تجربة الجبيل وإدارتها نحتاج إلى استنساخها لتطبيقها في مدن صناعية واستثمارية أخرى، ومن ثم تتحول إلى معيار لبقية المدن الصناعية الموجودة الحالية والتي تتبع الهيئة السعودية للمدن الصناعية (مدن)، لترينا منجزاً نفخر به أو مشروعاً يمكن أن نطلق عليه مشروعاً يضاهي المدن الصناعية في العالم، فهي لا إدارة ولا تنظيم ولا حتى فريق عمل لديه خبرة، لن أطيل في هذا الجانب سواءً مدن صناعية أم مدن اقتصادية، فالحال لا تسر.

سألت المسؤول عن سلامة وحماية البيئة في الهيئة الملكية المهندس عويد الرشيدي عن المعادلة بين انبعاثات المصانع وسلامة الناس؟ قال: «إن المساحات الخضراء التي أوجدتها الهيئة تتوازى مع حجم المصانع، فكلما فتحنا مصنعاً زدنا مساحة خضراء»، ويضيف: «يتم تحديد المناطق واختيار المواقع السكنية والصناعية والترفيهية وغيرها من الاستخدامات بناءً على تقييم التأثير البيئي.. إذ يؤخذ في الاعتبار توفير مناطق عازلة بين المنطقة السكنية والصناعية، إضافة إلى الطرق الآمنة للنقل والملائمة للظروف العادية ولحالات الطوارئ».

وأشار الرشيدي إلى أنه يتم تجميع النفايات السكنية والصناعية ومعالجتها في مرافق مركزية تملكها وتشغلها الهيئة الملكية، وقال: «يشترط على المصانع التقيد بمعايير محددة للنفايات التي تقوم بصرفها إلى هذه المرافق»، أما بالنسبة للمطاعم والأغذية فيقول المسؤول البيئي في الهيئة: «يشترط في المواد الغذائية التي يتم توزيعها أو بيعها في الجبيل وينبع الصناعيتين أن تكون مطابقة للمعايير المعتمدة من الهيئة الملكية، كما تم وضع متطلبات وشروط صحية خاصة للعمال المختصين بخدمات تقديم الطعام».

المدة الزمنية التي أمضيتها في الجبيل قصيرة، وربما حرص المسؤولون والزملاء في العلاقات العامة على أن نشاهد الجانب المضيء، وربما يحتاج الأمر في المرة المقبلة إلى أسبوع على الأقل، ولكن الزوايا التي شاهدناها كانت كافية لإعطاء انطباع أولي عن هذه المدينة، مدينة نموذجية تتوافر فيها البنية التحتية والمشاريع الضخمة والتنظيم الصناعي والسكني والبيئي والاجتماعي وفق أعلى المعايير، وحتى تعليمها المستقل.

المدينة تنتظرها مشاريع بأكثر من 3 تريليونات ريال، لربما احتاجت في المستقبل إلى قطار للنقل الداخلي، ومترو، ومطار مخصص للشحن، وآخر مدني، فالمسافة الحالية من الجبيل إلى الظهران تحتاج إلى 90 دقيقة، وكذلك افتتاح جامعة تكون مخصصة لمتطلبات المصانع والشركات، وتخصصات تغطي حاجة السوق، وربما تكون إحدى الجامعات المهمة عالمياً وتستقطب طلاباً من دول أخرى.

إذا كان المسؤولون في الهيئة الملكية يفخرون بمنجزاتهم السكنية والصناعية، فالناس في محافظة الجبيل، وهي الجزء القديم منها، يأملون بأن يصيبهم من التنمية شيء، فهي ليست تحت مظلة الهيئة، بل تحت الإدارة الحكومية. أتمنى لو يتم تأهيل المدينة وتحويلها تحت سلطة «الهيئة»، أو عمل اتفاق تعاون بين «الهيئة» والمحافظة، كمشروع تكاملي تعاوني لمصلحة الناس والمواطنين، ويمكن الاستفادة منها كمدينة يتوافر فيها متحف وجامعة وبعض المرافق الصحية والسياحية، وتجهيزها كمدينة جديدة وفق معايير عالمية، بشرط ألا يدخل فيها تجار العقار وترويج المخططات والشركات الرديئة وأصحاب المجاملات والواسطات.

بالفعل، نريد أن تبقى الهيئة الملكية أنموذجاً نفتخر به وبمشاريعها الصناعية، كإحدى المدن الصناعية التي يحلم كل شاب سعودي بأن يعمل ويسكن فيها ويتزوج، كما نريد أن تكون الجبيل حدثاً عالمياً.

* جمال بنون صحافي وكاتب اقتصادي.

المصدر | الحياة

  كلمات مفتاحية

السعودية الهيئة الملكية للجبيل مدينة الجبيل الصناعية الاستقلال الإداري القيادة السعودية