لماذا قتل نظام «السادات» الشاعر «نجيب سرور» بإيداعه مستشفى الأمراض العقلية؟ (1ـ2)

الاثنين 27 مارس 2017 08:03 ص

«البحر غضبان ما بيضحكش..

 أصل الحكاية ما تضحكش..

 يا قُلّة الذل أنا ناوي..

ما أشرب ولو في الميّة عسل..

بيني وبينك سور ورا سور..

وأنا لا مارد ولا عصفور..

في إيدي عود رنان وجسور..

وصبحت أنا في العشق مثل! »

الأبيات المكتوبة بالعامية المصرية عاشت بعد وفاة صاحبها حتى ترددتْ في ثورة يناير/كانون الثاني المصرية، وغناها الراحل الأشهر، في عالم الاعتراض السياسي الشعبي، الشيخ «إمام» منذ سنوات، في خروج نادر عن مألوف غنائه للراحل «أحمد فؤاد نجم»، والأبيات السابقة هي لشاعر آخر عاش حياة تتجاوز الخيال بمراحل، ليحق له أن يصير من أندر وأشهر الأدباء العرب الذين لقوا فنون العذاب من الأنظمة السياسية وأجهزتها البوليسية والمُخابراتية، ولتنجح الأخيرة في قتله معنوياً عقاباً له على كلماته، قبل موته بالفعل بقليل.

على أن «نجيب سرور»، أو «محمد نجيب محمد هجرس سرور» تم ظلمه على مراحل بداية من المرحلة الثانوية وما قبلها حتى وفاته في مستشفى دمنهور العام في 24 من أكتوبر/تشرين الأول 1978م إثر نوبة سكر لم يفق منها، أثناء زيارة أحد إخوته له، لم يتم ظلم «سرور» مرة، بل تراكم الظلم عليه منذ الصغر حتى كون معارضة صلبة، جافة، حادة، قاطعة، بداخلة، ربما لم ير الأدب العربي الحديث والمعاصر، لها مثيلاً في قسوة التعبير وخروجه عن المألوف بل عن حدود اللياقة والتهذيب، اللهم إلا مع الشاعر العراقي الراحل «مظفر النواب»، فالأخير سب الرؤوساء العرب جميعهم على الهواء في مؤتمر القمة العربي في دمشق قرب منتصف السبعينيات، و«سرور» كتب ديواناً كاملاً من السب المتواصل لوطنه مصر لم يترك أحداً فيه من الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر»، للحي وقتها «أنور السادات»، لوزير الثقافة، للممثلين، للمثقفين..إلى آخره.

وفي ديوان «الأُميات»، إذ يستحيل ذكر اسمه هنا كاملاً، يقول «سرور» عن نفسه، في جزء قابل للنشر:

«أنا عارف إني هاموت موتة ما ماتها حد..

وساعتها هيقولوا لا قبله ولا بعده..

وبطانة بتقول يا عيني مات في عمر الورد. .

وعصابة بتقول خلصنا منه.. مين بعده؟».

وتلك كانت أبيات من أروع ما قال الراحل وأحسن فيها التنبأ بنهايته وفق منظومة شجن غريبة ألمت بروحه فأطلق سلس الإبداع من جوفها..

ظلم حتى في الوفاة

على أن أبرز ما يخص وفاة «سرور» أن نظام الرئيس الراحل «أنور السادات» اضطره إلى تلك الميتة ليتخلص منه، وعاقبه على الديوان الأجرأ بإيداعه مستشفى الأمراض العقلية، وليبحث عن غيره ليقتله بالفعل.

 لكن «سرور» ظلم حتى في موته،  فالمثقف الشيوعي اليساري الذي انضم في مقتبل العمر إلى تنظيم «حدتو»، ورحل إلى الاتحاد السوفيتي، وأقام الدنيا هناك ولم يقعدها، واخترق أوساط الفن والثقافة حتى أُنهكت روحه، وتعاون البوليس والمخابرات والساسة على إفنائه ظلماً، وبعد وفاته عاقبه الإعلام تماماً بتمام مثل «علي عبد الرازق»، «طه حسين»، و«نجيب محفوظ»، ولكن الإعلام الذي يُكثف أضواؤوه على الجانب السيء من المبدعين يُخفي المشهد تماماً لما يعودون إلى صوابهم!

يروي الكاتب المصري «سعد القرش» «قال لي الشاعر أسامة عفيفي إنه كان بصحبة سرور قبل أيّام من وفاته، في مقهى (سان سوسيه) بميدان الجيزة، وذهبا إلى بيت سرور في حي الهرم. وقبل الانصراف طلب سرور أن يحضر له (وتريات) مظفر النواب، وقال له (افتح الراديو على إذاعة القرآن، الليلة ليلة عبدالباسط عبدالصمد)، وخلّي شرّاعة الباب مفتوحة». في اليوم التالي عاد 

إليه بديوان مظفر، وفوجئ بانتقاله إلى المستشفى. بحسب «العرب» اللندنية في 11 من فبراير/شباط الماضي.

البداية

«أنا ابن الشقاء

ربيب الزريبة والمصطبة

وفي قريتي كلهم أشقياء

وفي قـريتي عمدة كالإله

يحيط بأعناقنا كالقــدر

بأرزاقنا

بما تحتنا من حقول حبالى

يلدن الحياة

وذاك المساء

أتانا الخفير ونادى أبي

بأمر الإلـه! ولبّى أبي

وأبهجني أن يقال الإله

تنازل حتى ليدعو أبي! ».

بعض المبدعين لا يصح في حضرة تناولهم الكتابة عنهم من سطر النهاية، بل توجب سيرتهم على الكاتب تناولهم من خط البداية، إذ إن حياتهم تبدو كالسلسلة المتصلة يُسلمُ بعضها إلى بعض، جزء القصيدة الأخيرة ضمه ديوانه «لزوم ما يلزم»، والذي عارض فيه ديوان «أبو العلاء المعري «لزوم ما لا يلزم، وقد ألقاها «سرور» وعمره 22 عاماً في رابطة الأدب الحديث في القاهرة، في حضور الراحل «صلاح عبد الصبور»..دون دعوة أو مناسبة.

وُلِدَ «سرور» في قرية أخطاب في الدقهلية في الأول من يونيو/حزيران من عام 1932م، وهناك لمس روح التعالي التي تجعل أباه عبداً يتم التعامل معه على أن سيده العمدة، وأنه يكفيه شرفاً أن يُدعا إلى منزله، في ظل نظام الإقطاع المعروف آنذاك، ويكبر شعور الظلم مع سرور، فيكتب القصيدة ويسميها (الحذاء)!

وفي العام الأخير من دراسة «سرور» في كلية الحقوق يكتشف أنه ضل الطريق، وأن مكانه المعهد العالي للفنون المسرحية مع صديقه «كرم مطاوع» عام 1958م، ليصعد السلم الثقافي بصعوبة عقب كتابته مسرحية «شجرة الزيتون»، ويتم إلحاقه ببعثة إلى الاتحاد السوفيتي لدراسة الإخراج المسرحي.

إبداع وثورة

كان صاحب سبع صنايع كما يُقال بالعامية المصرية على النابه في عدة أمور منها كتابة الشعر والرواية والإخراج والتمثيل وأيضاً العمل السياسي، فلم يكن الراحل من مثل شجرة الأدباء المصريين بداية من «يحيي حقي» الذي عمل معه عقب تخرجه، وكان ذلك في «المسرح الشعبي) الذي كان تابعاً لمصلحة الفنون بوزارة الثقافة، والذي كان يديرها الأخير، وإنما انخرط «سرور» في العمل السياسي بمعناه السري العملي، وتوّج ذلك بسفره إلى الاتحاد السوفيتي ليبدأ تاريخاً دامياً من حياته لازمه حتى وفاته، بل تسبب بعد انتقاله إلى رحاب الله في حكم السلطات المصرية على ابنه «شهدي» بالسجن، ليضطر الأخير إذ انسكب حب أبيه في داخله فنشر في عام 2011م ديوانه «الأميات» على شبكة المعلومات الدولية ثم فر إلى الاتحاد السوفيتي!

كان من أشهر الأدباء المصريين في عداء الأجهزة الأمنية والمخابراتية، وكانت الفكرة تملكت وجدانه من أنه قادر على إصلاح أحوال وطنه، وفي الاتحاد السوفيتي لم يلبث أن جاء العام الثاني من بعثته عام 1958م ليعلن عن اعتراضه على ممارسات «جمال عبد الناصر» الأمنية في دمشق، أيام الوحدة مع سوريا، وكشف «سرور» عن ماركسيته، ودعا الطلاب ليكون لهم دور ضد الرئيس، واصبح كاتبهم وزعيمهم، فكتب الموالون للنظام فيه تقارير سريعة، جعلت المنحة تُسحب منه، ليطالب بالعودة إلى مصر فيصر على الرفض، ليؤسس مجموعة «الطلبة الديمقراطيين»، ويصبح زعيماً لهم، لكن الخوف تملكه فجأة، وهو خوف تعاظم في حياته مع إبداعه فسافر من موسكو إلى بودابست ليعمل في القسم العربي من الإذاعة، ويتزوج وينجب، لكن الرعب يجتاحه من مطاردة عناصر النظام له، ربما مطاردة طبيعية في مثل حالاته، لكنه خائف، فيعمد لتسليم نفسه للسفارة المصرية، لتروى أساطير عن عودته، تماماً كما عن زوجته الثانية المُمثلة، ومن الأساطير الأولى مقابلته وزير الإعلام آنذاك «عبد القادر حاتم»، وتوسيطه للعودة، للعودة في طائرة عسكرية، لتقبيله أرض المظار لحظة وصوله ..لتبدأ صفحة أشد مرارة في حياته نتناولها في الجزء الثاني والأخير من هذا التقرير.

 

المصدر | الـخليــــج الجــديــد

  كلمات مفتاحية

نجيب سرور قتل نظام السادات شاعر