شيخ الأزهر والثورة والانقلاب.. والنزاع مع السـيسي!

الاثنين 15 مايو 2017 01:05 ص

دخل الشيخ السبعيني قاعة الفندق العسكري، قبل دخول القائد الأعلى للقوات المسلحة للاحتفال بعيد العمال، وما أن بدا بين الحضور مصافحا لبعضهم، علا الهتاف باسم المؤسسة التي يتولى مشيختها، وبادلهم الإمام الأكبر التحية، في إشارة قوية لحضوره الوجداني المتزايد، ودعمه من عموم المصريين، على الرغم من خلافه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حتى من يتم انتقاؤهم بعناية لحضور مؤتمرات الأخير، وانتزاع الشيخ ذلك الهتاف الحار مشهد غير مألوف، عند حضور أي زعيم عربي بين مؤيديه، إذ لا يقبل الزعماء العرب الشِّرْكة في أي شيء، ولو كان هتافا. 

لإدراك كيف وصل الشيخ أحمد الطيب إلى هذه اللحظة، ينبغي رصد محطات مهمةٍ في مسيرته، وهي مسيرةٌ طويلةٌ إلا أن تفاصيلها غابت وسط الانشغال بهموم السياسة، وأيضا بسبب الالتفات الشعبي جزئيا عن الأزهر، نظرا لمواقف متوافقة مع سلطاتٍ يعاني الشارع من حكمها. 

عُرف الشيخ أحمد الطيب، عندما عينه الرئيس الأسبق حسني مبارك مفتيا للديار المصرية في 10 مارس/ آذار 2002، وهو المنصب الذي يؤهله للمشيخة، بحسب العرف السائد، ولم يدم الشيخ الطيب في المنصب طويلا، إلا أن دار الإفتاء سجلت في عهده حوالي 2835 فتوى في سجلاتها، لتنتهي رئاسته الدار في 27 سبتمبر/ أيلول 2003 ويتم تعيينه رئيسا لجامعة الأزهر.

وهو منذ رئاسته الجامعة لا يتقاضى راتبا عن عمله، وعفّة اليد عن حق مكتسب أمارةٌ على فضائل صاحبها، وبقيت رئاسة الشيخ الطيب الجامعة حتى وفاة الشيخ محمد سيد طنطاوي، ليصبح أستاذ العقيدة والفلسفة شيخا لأكبر مؤسسة سنية في العالم في 19 مارس/ آذار 2010. 

تحدّث الطيب في أول حوار له عقب توليه المشيخة لموقع العربية نت، في 21 مارس/ آذار، وأرسل رسائل كثيرة، منها أنه سيعمل على جعل الأزهر مرجعيةً لكل المسلمين لا السنة فقط، وانتقد مسار دولة يوليو بشكلٍ لافت، فقال: "لا شك أنه تم التفريط في حق الأزهر كثيرا، ولا أقصد أن هذا التفريط في عهد الراحل الشيخ طنطاوي، ولكن منذ كانت مصر على المد الاشتراكي، وتأثيره في التدين والدين والتراث والثقافة، لأننا ارتمينا في أحضان الاشتراكية ومن بعدها الرأسمالية".

وكانت علاقة الشيخ بالإخوان المسلمين متوترة في أثناء رئاسته جامعة الأزهر، فكان خطابه عنهم في حدود توجه "المؤسسة" نحو عدم إثارة الخلافات مع أي طرف، وقال: "لا أخوّف الإخوان أو غيرهم، إنما أعبر عن مؤسسةٍ أزهريةٍ علميةٍ أكاديميةٍ بحثيةٍ تعليمية، تبلغ الإسلام إلى الناس، ونحن لسنا منظمة أو تنظيما. ومن يعمل معنا في هذا الإطار نرحّب به، أما أن يستغل الإسلام والأزهر لترويج أمور أخرى، فهذا ما نرفضه".

وفي 11 إبريل/ نيسان، وبعد عودة مبارك من رحلة علاجية في ألمانيا، أعلن شيخ الأزهر استقالته من عضوية لجنة سياسات الحزب الوطني الديمقراطي، ليبدأ محاولاتٍ خجولة أحيانا، وجريئة في أحيان أخرى، لاستقلال الأزهر ولو نسبيا، ليبني غيرُه على ما فعل، كما يقول عن منهجه في الاستفادة ممن سبقوه. 

عندما اندلعت الثورة المصرية، وصف الشيخ أحمد الطيب مطالب المتظاهرين بأنها مشروعة، واعتبر الذين قتلوا شهداء، لكنه كان يعتبر ديمومة التظاهرات ستؤدي إلى الفوضى، ثم حرّمها عقب إعلان مبارك عدم ترشحه للرئاسة مرة أخرى. وبرّر الشيخ هذه المواقف في بيانه 16 فبراير/ شباط 2011 بأن الأزهر "لم يكن ليمسك بالعصا من الوسط كما قيل، بل أمسك بالعصا وهو يتقلب بين خوفين: خوف قطرة دم تراق من هؤلاء الشباب، وخوف على الوطن أن ينفرط عقده ويدخل فى مجهول".

وربما يشفع لهذا الكلام رفضه استقالة المتحدث باسم الأزهر، السفير محمد رفاعة الطهطاوي، الذي ذهب إلى ميدان التحرير، داعما التظاهرات، وأراد أن يرفع الحرج عن الشيخ فاستقال، لكنها قوبلت بالرفض، وكذلك كان الشيخ حسن الشافعي يدعم التظاهرات، ولم يتخذ الشيخ معه أي إجراء إداري. 

 

وثائق عن مستقبل مصر 

تسبب نجاح الثورة في عافية الأزهر، وأصدر خمس وثائق رائقة عن مستقبل مصر، ودعم إرادة الشعوب العربية، ووثيقة الأزهر للحريات، ووثيقة نبذ العنف (وقت حرق مقرّات الحزب الحاكم والاقتتال في الشوارع بين الفرقاء السياسيين وصدرت مطلع 2013)، وأخيرا وثيقة الأزهر لحقوق المرأة، وهي وثائق اشترك فيها مصريون من الاتجاهات الفكرية كافة، فكان الأزهر مظلة توافقٍ بين الخصوم الفكريين، واستطاع أن يجمع الفرقاء على أرضيةٍ مشتركةٍ، لا تنتقص من الدين ولا تكبت الحريات، وكان من أهمها تلك التي صدرت لدعم إرادة الشعوب العربية، وتحدثت صراحة عن جواز التظاهر ضد الحاكم المستبد، ولا يعد ذلك خروجا عليه كما جاء بنص الوثيقة: 

• وقد دَرَجَ كثيرٌ من الحكّام على تعزيز سلطتهم المطلقة، مُتشبِّثينَ بفهم مبتور للآية القرآنية الكريمة: "وأَطِيعُوا اللّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ" متجاهلين سِيَاقَها الواضح الصريح في قوله تعالى، قبل ذلك في الآية التي تسبق هذه الآية مباشرة: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ" ممّا يجعل الإخلال بشروط أمانة الحكْم وعَدَم إقامة العدل فيه مُسَوِّغًا شرعيًّا لمطالبة الشعوب حكامهم بإقامة العدل، ومقاومة الظلم والاستبداد. 

• عندما يرتفع صوت المعارضة الوطنية الشعبية والاحتجاج السِّلميّ، الذي هو حقٌّ أصيلٌ للشُعوب لتقويم الحكّام وترشيدهم، ثم لا يستجيب الحكّام لنداء شعوبهم، ولا يُبادرونَ بالإصلاحات المطلوبة، بل يُمْعِنونَ في تجاهل المطالب الوطنية المشروعة التي تنادي بالحرية والعدالة والإنصاف، فإن هؤلاء المعارضين الوطنيين لا يُعَدُّون من قَبيل البُغاة أبَدًا، وإنّما البُغاة هم الّذين تحدَّدت أوصافُهم فِقهيًا بامتلاك الشَّوكة والانعزال عن الأمَّة، ورفع الأسلحة في مواجهة مخالفيهم، والإفساد في الأرض بالقُوّة، أمّا الحركات الوطنية السِّلميّة المعارضة، فهي من صميم حقوق الإنسان في الإسلام التي أكّدتها سائر المواثيق الدّوليّة، بل هي واجب المواطنين لإصلاح مجتمعهم وتقويم حُكّامهم، والاستجابة لها واجبٌ على الحكّام وأهل السُّلطة، دونَ مُراوغةٍ أو عنادٍ. 

• تُعَدُّ مواجهة أيّ احتجاج وطني سِلميّ بالقوّة والعُنفِ المسلَّح، وإراقة دماء المواطنين المسالمين، نقضًا لميثاق الحكْم بين الأمّة وحكّامها، ويُسقِطُ شرعيّةَ السُّلطة، ويهدر حقَّها في الاستمرار بالتَّراضِي، فإذا تمادتِ السُّلطةُ في طُغيانها، وركبت مركب الظلم والبغي والعدوان واستهانت بإراقة دِماء المواطنينَ الأبرياء، حِفاظًا على بقائها غير المشروع -وعلى الرغم من إرادة شعوبها- أصبحت السلطة مدانة بجرائم تُلَوِّثُ صفحاتها، وأصبح من حق الشعوب المقهورة أن تعمل على عزل الحكام المتسلطين وعلى محاسبتهم، بل تغيير النِّظام بأكمله، مهما كانت المعاذير من حرص على الاستقرار أو مواجهة الفِتَنِ والمؤامرات، فانتهاكُ حرمة الدَّم المعصوم هو الخطّ الفاصل بين شرعية الحكم وسقوطه في الإثم والعدوان. 

• وعلى الجيوش المنظّمة في أوطاننا كلِّها -في هذه الأحوال- أن تلتزم بواجباتها الدّستورية في حماية الأوطان من الخارج، ولا تتحوّل إلى أدواتٍ للقمع وإرهاب المواطنين وسفك دمائهم؛ فإنه "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا". 

كانت وثائق الأزهر تلك تمثل حالته العفيّة على امتداد سنوات الثورة. ولما انتكست أُحضر الشيخ من بلدته في أقصى الصعيد بطائرة خاصة على عَجَل، ليقف داعما لوزير الدفاع حينها في إطاحة الرئيس المنتخب محمد مرسي، وهي واحدةٌ من أكبر أخطاء فضيلته.

ورغم وقوفه بمؤسسته بعيدا عن الخلافات السياسية، في أوقاتٍ كثيرة منذ توليه المشيخة، إلا أنه اقتحم موطئا من أوْعر مواضع السياسة، فجرى منه ما كان. 

 

مواقف وخلافات 

ما يبدو أن مقربين من الشيخ أحمد الطيب راجعوه في موقفه ذاك، فسارع بإعلان موقفه الرافض ما جرى في 8 يوليو/ تموز 2013، فيما عرف بمذبحة الحرس الجمهوري، وهدّد بالاعتكاف رفضا للدم الذي سال، واعتبر الذين ماتوا شهداء، وطالب بتشكيل لجنةٍ للمصالحة الوطنية في خلال يومين على الأكثر "لا تقصي أحدا"، كما طالب بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وشدّد على واجب الدولة في حماية المتظاهرين السلميين وتأمينهم، وعدم الملاحقة السياسية لأيٍّ منهم.

وعقب فض اعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة، توجه بخطاب آخر للأمة، ذكر فيه أن العنف لا يمكنه أن يكون بديلا للحلول السياسية، وأن الحوار الجاد هو الأوحد للخروج من الأزمة "إذا صدقت النوايا"، وأعلن "إبراءً للذمة" أن الأزهر لم يكن يعلم بإجراءات فضّ الاعتصام إلا من وسائل الإعلام، كما طالب الجميع بعدم محاولة إقحام الأزهر في الصراع السياسي، ويبدو أن تلك اللحظة هي بداية الخلاف بين عبد الفتاح السيسي ومؤسسته من جهة والطيب ومؤسسته من جهة أخرى. 

اتسعت الخلافات بصورة ملحوظة، فأصبح السيسي عقب رئاسته يحضر الصلوات العامة، ويقف مستشاره للشؤون الدينية، أسامة السيد (الأزهري)، خطيبا في حضور شيخ الأزهر والمفتي ووزير الأوقاف، وتطور الأمر للنقد العلني المتكرّر من السيسي للإمام الأكبر، عندما قال له في احتفالية المولد النبوي الشريف 13 كانون الثاني/يناير 2015: "إنهم والدعاة مسؤولون أمام الله عن تجديد الخطاب الديني، وتصحيح صورة الإسلام، وسوف أحاججكم به أمام الله".

وهو الخطاب الذي تحدث فيه عن أنه لا يمكن لمليار وربع المليار أن يتغلبوا على ستة مليارات. وعندما قال في احتفالية المولد النبوي الشريف أيضا 8 ديسمبر/ كانون الأول 2016 "أنت بتعذبني". وفي أثناء الاحتفال بعيد الشرطة في 24 يناير/ كانون الثاني الماضي، تحدث السيسي عن تزايد حالات الطلاق، فاقترح منع الطلاق الشفهي وحصْر الطلاق في الحالات الموثقة فقط، ثم توجه، باقتراحه ذلك، إلى شيخ الأزهر على الهواء، ثم قال له: "تعبتني يا فضيلة الإمام". 

ما أتعبه من الإمام، بخلاف موقفه في أثناء الاعتصامات، أن موقف الشيخ حول ما يجري في الدول العربية مختلف عن رؤية النظام المصري، فهو انتقد الحشد الشعبي وجرائمه ضد السنة في العراق، فاستدعت الخارجية العراقية السفير المصري في بغداد، وسلمته مذكرة احتجاج رسمية ضد التصريحات "التي تسيء للعلاقات الأخوية المتميزة بين البلدين".

كما أن هناك مطالبات مستمرة للأزهر بتكفير أفراد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لكن منهج الأزهر لا يكفّر أحدا أقرّ بالشهادة، حتى إن تعيّن قتاله، كما يصدر من المؤسسة عن "داعش"، كما انتقد الصين لممارساتها ضد المسلمين هناك، وجاء في البيان أن "الأزهر يرفض جميع أشكال القمع المسلطة على المسلمين الويغور في الصين"، كما طالب المجتمع الدولي بالتدخل. 

وتفيد ملاحظة البيانات الصادرة عن الأزهر بأنها لا تدخل في النزاعات السياسية، وتجنبت بشكلٍ محدّد تسمية جماعة الإخوان المسلمين في معرض النقد، خلافا لما يقوم به كل من مفتي الديار ووزير الأوقاف. كما عزّز من مكانة الشيخ أحمد الطيب أن الأزهر في عهده لا يتعامل بخطابٍ مغازل للغرب، ففي حوار مع وكالة فرانس برس في يونيو/ حزيران 2015، اعتبر الشيخُ أن "الغرب ليس بريئا من توسع داعش، وأن للغرب مصلحة في تفتيت المنطقة".

وأضاف أن "السلاح الذي بيد داعش أميركي ولم يُصنع في العالم العربي"، كما اتهم الغرب بعدم الجدية في قتال "داعش"، وهذا خطاب غير معتاد من مسؤول مصري بأي مستوى. 

جديد مواقف الأزهر رفضه الخطبة الموحدة في أداء صلاة الجمعة، واستبدال مادة الأخلاق (مع عدم ممانعته تدريس المادة الجديدة) بـمادة التربية الدينية، ثم كان رفضه وقوع الطلاق الشفهي، رغم الطلب المباشر من الرئيس عبد الفتاح السيسي من الشيخ أحمد الطيب ذلك على الهواء.

وليست هذه الصلابة من الشيخ وحده، بل تُعاونه هيئة كبار العلماء التي تصدر باسمها بيانات الأزهر، وهي التي تضم محمد عمارة وحسن الشافعي ونصر فريد واصل وأحمد معبد وأحمد طه ريان ومحمد رأفت عثمان، وغيرهم من العلماء والمشائخ الذين نظن أنهم لا يشغلهم مدح حاكم أو ذمّه، بقدر ما يشغلهم تبليغ الرسالة التي حملوها. 

ما ينبغي تجليته أن المراد هنا ليس تحميل مواقف الشيخ أحمد الطيب أكثر مما تحتمله، فأغلب الظن أن مواقفه مبنيةٌ على قناعته وقناعة هيئة كبار العلماء، وهم لا يترصّدون للنظام في مصر أخطاءه، ولا يسعون إلى الصدام، وليس مطلوبا منهم أن يتحولوا معارضين سياسيين.

لكن يبدو أن مؤسسة الرئاسة ذهبت بعيدا في تصوّرها عما يمكنها فرضه على كل مؤسسات الدولة، إلى أن اصطدمت بالمؤسسة الدينية الرسمية بشكل مفاجئ، بعد مظنة تدجينها سبعة عقود مضت. والرسالة التي يحتاج الأزهر، وباقي المؤسسات الدينية، إلى إدراكها أن الشارع لا يبغي منهم سوى أن يحفظوا عليهم معتقدهم، وألا يتجاوزوا تبليغ الرسالة إلى رضى حزب أو سلطة.

* شريف أيمن باحث وكاتب مصري

المصدر | شريف ايمن | العربي الجديد

  كلمات مفتاحية

مصر داعش عبد الفتاح السيسي أحمد الطيب مؤسسة الأزهر الإخوان المسلمون الحشد الشعبي