حدود القوة الإيرانية..لماذا تعتمد طهران على الميليشيات؟

الخميس 1 يونيو 2017 07:06 ص

أفضلية القوة هي مسألة غير دائمة في الشرق الأوسط. وتميل القوة إلى المد والجذر بين اللاعبين الرئيسيين الأربعة في المنطقة، إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا و(إسرائيل)، والجهات الفاعلة الخارجية مثل الولايات المتحدة وروسيا هي دائما في تغير، وهي تلعب بالبلدان والمجموعات العرقية المختلفة التي تشكل سكانها، خلال السعي لتحقيق مصالحها الخاصة.

وفي الحالة الراهنة، تميل القوة لصالح إيران. ولأعوام، وسعت إيران نفوذها على حساب منافسيها العرب، الذين كانوا منشغلين بالصراع العسكري، والاضطرابات المدنية، وانخفاض أسعار النفط. وقد أدى صعود طهران بطبيعة الحال إلى تفاقم التوترات في المنطقة، والتي لا تظهر أي علامات على التراجع. وفي 21 مايو/أيار، زار الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» السعودية، وهي الزيارة التي بدت تحالفًا مع الدول الإسلامية السنية ضد إيران. وفي 19 مايو/أيار، أعادت إيران انتخاب الرئيس «حسن روحاني» لولايةٍ رئاسيةٍ جديدة، وهو رئيسٌ معتدل بالنظر إلى معايير طهران، وقد ساعد على التوسط في الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة.

وبذلك فمن المغري أن نفترض أنّ هذه الاتجاهات ستستمر. لكنّ سلوك البلاد لا ينبني على الخطب والانتخابات، بل على الضرورات والقيود الجيوسياسية، ولدى إيران العديد من القيود التي قد تحد من مدى صعود قوتها.

قوة هائلة على الورق

قد تفوق قوة إيران الهائلة على الورق حقيقة ممارستها العملية. وهي البلد الـ 17 من حيث المساحة والـ 17 من حيث عدد السكان عالميًا. وهي سادس أكبر منتجٍ للنفط وثالث أكبر منتجٍ للغاز الطبيعي. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، فإنّها تحظى باقتصادٍ يأتي في المرتبة الـ 29 على العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من معاناتها من عقودٍ من العقوبات الاقتصادية.

 

لكنّ القوة الإيرانية تبقى قيد الاختبار. والميزة الأكثر أهمية لديها هي الجغرافيا. فإيران الحديثة محاطة تمامًا بالجبال. وتشكل جبال زاغروس، التي تمتد من جنوب القوقاز إلى الخليج العربي قبل أن تتجه شرقًا بمحاذاة الخليج نفسه، الجناحين الغربي والجنوبي لإيران. وتفصل جبال البرز، التي تحيطها شرقًا وغربًا على طول بحر قزوين في الحدود الشمالية، إيران عن تركيا وأذربيجان وأرمينيا وتركمانستان. وفي الشرق، تفصل الجبال إيران عن أفغانستان وباكستان.

وعلى الرغم من أنّ كل هذه المناطق تشكل حواجز طبيعية تحمي إيران من الغزو، فإنّها تعوق أيضًا التوسع الخارجي. وبالنسبة إلى إيران، يعد الدفاع سهلًا، فيما يصعب الهجوم.

وتعد إيران مقيدة أيضًا بالديموغرافيا. حيث يوجد في البلاد عددٌ كبيرٌ من الأقليات، بما في ذلك الأكراد والعرب والبلوشيين، وجميعهم يتمتعون باتجاهاتٍ انفصالية. ومنذ تأسيسها عام 1979، عندما تمت الإطاحة بالنظام الملكي العلماني، حاول النظام الحالي حل هذه المشكلة عن طريق زرع هوية وطنية غارقة في الشيعية. (وقد ساعد الاستخدام المشترك للغة الفارسية أيضًا في هذا الصدد، وفي الواقع، كان لها أثرٌ تاريخيٌ على ثقافات وحضارات الشعوب في جميع المناطق المحيطة بها). لكنّ الدين يبقى عائقًا حتى الآن. فلم تحبط جهود الحكومة الأقليات السنية التي تملأ حدود إيران تمامًا. وكثيرًا ما يتعارض رجال الدين الذين يسيطرون على الحكومة مع المؤسسات الجمهورية في البلاد.

إيران وحدها

وعلى الرغم من أنّ هذه الاختلافات العرقية والطائفية قد تكون مشكلة بالنسبة للسياسة الإيرانية المحلية، إلا أنّها تؤثر أيضًا على الجيوسياسية في المنطقة. فالقوقاز والشرق الأوسط وجنوب آسيا، كلها تضم ​​أعدادًا كبيرة من الشيعة، لكنّ إيران وحدها لديها حكومة شيعية كأغلبية مواطنيها. وتحيط بها الدول السنية التي غالبًا ما تكون معادية لمصالحها. (هناك استثناءات ملحوظة بالطبع، فأذربيجان غالبيتها شيعية ولكن لديها حكومة علمانية، والبحرين غالبيتها شيعية لكن لديها نظام ملكي سني، والعراق معظمهم من الشيعة ولكن لديها حكومة غير فعالة في الغالب).

وبالتالي لا تملك إيران الكثير من الخيارات لتوسعة النفوذ. فلا يمكنها الذهاب إلى الشرق، حتى لو أرادت أن تتدخل في مشاكل أفغانستان وباكستان. ولا يمكنها الذهاب إلى الشمال، خشية أن تتعدى على الأراضي الواقعة تقليديًا تحت نفوذ روسيا. لكن يمكنها أن تذهب إلى الغرب فقط، باتجاه الشرق الأوسط.

وقد يكون الغرب هو السبيل الوحيد للتوسع، لكنّه أيضًا أحد السبل القليلة للمعاناة من الغزو، وهو ما حدث بشكلٍ متقطع من القرن الثالث إلى القرن السابع، والقرن السادس عشر، وفي الآونة الأخيرة قبل 37 عامًا. وبالتالي، فإنّ استراتيجية الأمن القومي الإيراني هي ضمان تحييد التهديدات التي تتعرض لها من ناحية الغرب، وليس من السهل تحقيق ذلك، بالنظر إلى أنّ معظم جيران إيران هم أغلبية من العرب السنة.

وبعد الثورة الإيرانية، مع وجود عدد قليل من الدول الصديقة كحليف، كان على إيران أن تكون خلاقة حين اندلعت الحرب مع العراق عام 1980. ولحسن الحظ لإيران، لم يكن هناك نقصٌ في الجماعات الشيعية المحرومة في العالم العربي على استعداد للتجمع حول رايةٍ إسلامية شيعية، وهي الراية التي دعمتها الحكومة في طهران منذ تأسيسها. وكان توقيت الثورة مميزًا، فالجماعات الإسلامية كانت تكتسب الشعبية، وكانت الجماعات العلمانية تفقدها. وبينما دعت إيران إلى ثورة إسلامية، وجدت جمهورًا مستعدًا لقبولها.

وهكذا تمكنت طهران من الربط بين القوى العربية الشيعية. وكانت أول وأهم الأمثلة في لبنان. حيث صعد حزب الله في الحرب الأهلية اللبنانية، والغزو الإسرائيلي الذي أعقب ذلك عام 1982، وهو جماعة رعتها ودعمتها إيران وسوريا، الدولة الوحيدة التي تحالفت مع إيران.

وقد فعلت سوريا ذلك لأسباب قليلة. أولًا، كانت الحكومة في دمشق برئاسة عشيرة الأسد، التي تنتمي إلى طائفة الإسلام الشيعي المعروفة باسم العلويين. وكان الأسد والعلويون يرأسون حزب البعث السوري المنافس لحزب البعث العراقي برئاسة صدام حسين، الذي كان في حالة حرب مع إيران وقت التحالف. وكان العراقيون مؤيدون للسعودية التي شكلت عام 1981 مجلس التعاون الخليجي مع الدول العربية الأخرى الغنية بالنفط في الخليج العربي.

وكانت الاستراتيجية ناجحة إلى حدٍ كبير، فقد تمكنت إيران من استخدام الخلافات الطائفية في المنطقة، فضلًا عن الخلافات بين العرب، من أجل توفير مساحة للعمل في بلاد الشام. وعلى نطاقٍ أصغر، حاولت إيران أيضًا دعم الجماعات الشيعية العراقية الأصغر والفصائل الكردية لمواجهة الحكومة العراقية.

ومع ذلك، كانت الجمهورية الإسلامية منشغلة بالحرب على مدى غالبية العقد الأول من تأسيسها، وهو ما كان يوفر الكثير من الراحة للمملكة العربية السعودية، التي يمكن القول بأنّها المنافس الرئيسي لإيران. ومع ذلك، خشي السعوديون من احتمالات اندلاع انتفاضاتٍ مماثلة ضد النظام الملكي، خاصةً وأنّ الحكومة الجديدة في إيران سعت علنًا ​​إلى تصدير ثورتها. وعرضت الحكومة في إيران نموذجا متنافسًا للحكم الإسلامي في شكل جمهورية، وهو أمرٌ يتناقض مع مفهوم الملكية المطلقة.

يد عليا نادرة

استمرت السعودية في الاستفادة من الحرب الإيرانية العراقية حتى بعد أن انتهت عام 1988. وكانت إيران مشغولة للغاية بجهود إعادة الإعمار في الداخل لتشكل تهديدًا كبيرًا، وفرضت الولايات المتحدة، الحليف السعودي، عقوباتٍ على الحكومة في طهران.

غير أنّ نزاعًا آخر كان يختمر ببطء بين الكويت والعراق، وهي دولة عازلة تحمي شبه الجزيرة العربية من التوسع الإيراني. وقد توج الصراع بحرب الخليج، وهو ما ترك العراق في حالة ضعيفة جدًا.

كان يجب تحييد البلد التي تحمي بقية الدول العربية. وقد دعمت معظم الدول العربية بما فيها السعودية الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد بغداد والعقوبات التي تلت ذلك في الأعوام الـ 12 التالية. وخلال ذلك الوقت، تُركت إيران وحدها حرة في إعادة بناء نفسها. ولم يكن السعوديون يحبون ذلك، ولكن لم يكن هناك الكثير مما يمكن القيام به حيال ذلك، حيث كانوا مشغولون في محاولة إدارة ظهور القاعدة.

وينفذ تنظيم القاعدة هجمات 11 سبتمبر/أيلول ضد الولايات المتحدة، وهي الهجمات التى كان لها عواقب وخيمة على الشرق الأوسط. وتعاونت الولايات المتحدة مع إيران، ولو بشكلٍ موجز، في غزو العراق اللاحق عام 2003. وقد عارضت السعودية هذا التحرك لأنّها تعرف أنّه إذا سقط «صدام حسين»، فسيحل محله دولةٌ شيعيةٌ متحالفة مع إيران.

وهذا بالضبط ما حدث. في غضون بضعة أشهر، ذهب العراق من كونه تهديدًا لإيران ليصبح حليفًا لها. وفي السنوات التي أعقبت ذلك، تميزت العلاقات الأميركية الإيرانية بمجموعة معقدة من المنافسة والتعاون من أجل التأثير في العراق. ولكن عندما غادرت الولايات المتحدة العراق، كانت هناك ظاهرة أخرى في الشرق الأوسط، من شأنها أن تهدد أساس القوة السعودية، وهي سلسلة من الانتفاضات المعروفة بالربيع العربي. وأصبح للفرس الآن اليد العليا في بلاد الشام وبلاد الرافدين، وهي حالة لم تكن قائمة منذ فترة طويلة. (المرة الأخيرة التي يتمتع فيها الشيعة بهذا النوع من القوة الجيوسياسية عندما كانت الإمبراطورية الصفوية تقاتل العثمانيين في خمسينيات القرن التاسع عشر، وحينها لم يسيطروا حتى على العراق، وكانت سيطرتهم على سوريا أقل بكثير).

ومع ذلك واجهت إيران قيودًا. وسرعان ما قمعت قوات الأمن السعودية غزوة طهران في شبه الجزيرة العربية، وهي دعمٌ متواضعٌ للانتفاضة الشيعية في البحرين، التي تقع مباشرة على حدود حقول النفط السعودية. لكن الاضطراب الأكبر بالنسبة لإيران جاء في سوريا، حيث تحولت الاضطرابات المدنية إلى حربٍ أهلية. وقد دعمت كل من السعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة وقطر قوات المعارضيم. وفي السنوات القليلة الأولى، بدا وكأنّ حكومة الأسد في طريقها إلى السقوط. وبمساعدة من روسيا وإيران، استعادت الحكومة الكثير من الأراضي التي كانت قد فقدتها من قبل، على الرغم من أنّها لا تزال ظلًا لما كانت عليه من قبل.

وليس حلفاء إيران الآخرين في وضعٍ أفضل. فعلى الرغم من أنّها حققت مكاسب كبيرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية واستعادت معظم الموصل، فإنّ الحكومة العراقية غير مستقرة ولا يمكن الاعتماد عليها. وفي أماكن أخرى، مثل اليمن، حيث يشارك السعوديون في حربهم الكبرى الأولى خارج حدودهم، لا تزال الحركة الحوثية الموالية لإيران محاصرة. وفي لبنان، يعاني حزب الله من الضغوط بسبب التزامه بالحرب في سوريا.

الكثير من القيود

يبدو أنّ إيران قد استغلت فرصها في العالم العربي بقدر ما تستطيع، على الأقل حتى الآن. وهناك ببساطة الكثير من القيود على النفوذ الإيراني. ونظرًا لعدم تمكنها من نشر قواتٍ عسكريةٍ تقليدية، توجب عليها الاعتماد على الجماعات الوسيطة والميليشيات الشيعية للقيام بمهامها. وحيث لا يمكنها أن تزعج الولايات المتحدة التي تسعى إلى تحقيق توازن القوى في الشرق الأوسط، فبالتالي لن تسمح لإيران بكسب الكثير من القوة على حساب العرب. ويجب على الحكومة في طهران التأكد من استمرار تخفيف العقوبات التي حصلت عليها من الاتفاق النووي.

ويأمل الإيرانيون أن يستفيدوا من الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لكنّها ليست حربًا لديهم مجالٌ كبيرٌ للمناورة فيها. وأفضل ما يمكنهم الأمل به هو استمرار الانفصال بين الأمريكيين والأتراك. ولا تستطيع تركيا أن تبقى على هامش سوريا لفترة طويلة، وفرضيات أنقرة نفسها ستجبرها على الانخراط في بلاد الشام، حيث ستواجه إيران تحدياتٍ خطيرة.

لا يريد العرب أن يسيطر الأتراك على المنطقة. لكن ليس لديهم خيار هنا مرة أخرى. وفي الوقت الذي تضعف فيه السعودية، يجب أن تتعامل تركيا مع القوة الإيرانية، كما تتعامل حتى مع تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة والجماعات الجهادية الأخرى. ولا يجد العرب خيارًا سوى الركون إلى الأتراك الذين هم على الأقل من حلفائهم السنة، أمام الشيعة والجهاديين.

وستواصل إيران التمسك بالقوة التي اكتسبتها، وستواصل من خلال وكلاءها التأثير على المنطقة. ولكن لا يمكنها السيطرة على المنطقة ذات الأغلبية العربية السنية.

المصدر | جيوبوليتيكال فيوتشرز

  كلمات مفتاحية

إيران السعودية العراق صدام حسين الربيع العربي