لا يهمّ أن تكون التسوية «إقليمية» أو دولية أو ثنائية، لا يهمّ التوصيف والتسويق، المهم ماذا في طيّات هذه التسوية. فإذا كانت تلبي فقط شروط سلطة الاحتلال الإسرائيلي، فإن هذه الشروط لا تصنع حلّاً مهما بلغت الممارسات الإجرامية للاحتلال.
وإذا لم تكن مبنيّة على مفاهيم العدل وإزالة الاحتلال واحترام كرامة الشعب الفلسطيني ومتطلّبات مستقبله، فإن تسويةً ضدّ المنطق وضدّ طبيعة الأشياء لن تكون ولو تضافرت كل الظروف لتسهيلها. والأهم أن لا يتوفّر أي قبول من الجانب الفلسطيني، وطالما أن الأمر يتعلّق بمصيره فلا يمكن لأي قوة أن تجبره على الانصياع، حتى لو تخاذل الأشقاء أو شاركوا في التضييق عليه، أو تنازلوا عما لا يملكونه أصلاً.
يجري الحديث عن «تسوية إقليمية» للقضية الفلسطينية على وقع تلميحات/ تأكيدات إسرائيل بأنها باتت تقيم اتصالات دائمة ومتينة مع عدد من الدول العربية، وأن من شأن هذه العلاقات أن تساعد في الضغط على الفلسطينيين، أو تبقى مجرّد تطبيع ثنائي يتجاوز الشأن الفلسطيني ليدعّم علاقات تلك الدول مع الولايات المتحدة، ويقيم توازناً مع إيران.
أما الحفاظ على سرّية هذا التطبيع حتى الآن، فكان يمكن تفسيره مثلاً بأن الدول المطبّعة منخرطة في مناقشة تسويةٍ ما، تعتزم عرضها على الفلسطينيين كـ «أفضل الممكن»، أو مثلاً أيضاً بأن تلك الدول تريد أن تتجنّب سلبيّة ردود الفعل الشعبية، أو أخيراً بأنها تنتظر «الحلّ السحري» الذي لوّح دونالد ترمب بأنه يملكه (أو سيمتلكه)، وعندئذ يمكنها أن تفصح عن مبرّرات تطبيعها مع إسرائيل.
لكن ما يجري واقعياً لا ينبئ حتى الآن بأن هذه الدول تهجس فعلاً بالهمّ الفلسطيني، وإنما بمصالحها أولاً، ولا أحد يلومها على ذلك، أمّا أن يكون مصير الشعب الفلسطيني وقضيته على طاولة المساومات ففي ذلك تفريط وتهوّر حتى في صون مصالحها نفسها.
كانت المرّة الأولى التي يتلمّس فيها الجانب الفلسطيني الأطروحات «الجديدة» لإدارة ترمب عندما اجتمع جيرالد كوشنير صهر الرئيس ومستشاره وجيسون غرينبلات الموفد الأميركي الخاص مع الرئيس محمود عبّاس. ففي هذا اللقاء أمكن للأخير أن يتعرّف إلى من هم بدرجة تطرّف بنيامين نتنياهو بل أكثر سوءاً. لم يكن في الإمكان الاتفاق مبدئياً على أي فكرة بسبب تعارضٍ واسع بين المفاهيم.
كان كوشنير يتحدّث كمَن يتعاطى مع حدث مستجدٍّ تنبغي معالجته بالمعطيات المتوفّرة منذ تسلّم هو الملف، أي بعد تنصيب عمّه رئيساً. فبالنسبة إليه ليس في الملف أن القضية لها تاريخ دولي طويل، وليس فيه أي ذكر لـ«الاحتلال» أو لإزالته.
لذلك استغرب أن يستخدم محاوره الفلسطيني هذا المصطلح للتعريف بهدف أي «سلام حقيقي»، ثم إن ملفه يجهل أن المجتمع الدولي أقرّ مبدأ «الدولتَين» ويعترف للفلسطينيين بحقّهم في إقامة «دولة مستقلة»، لذلك يشير إليها بـ «ما تسمّونه دولة»، بل يجهل أكثر أنهم يطالبون بأن تكون القدس عاصمة لها، فهو كصهيوني مؤدلج يعتبر أن «إسرائيلية» القدس محسومة. أما «حق العودة» فلا وجود له في قاموسه، ولو من قبيل الاعتراف الشكلي.
ومع أن الخارجية الأميركية تواصل انتقاد قرارات الاستيطان الإسرائيلية، فليس معروفاً إذا كان كوشنير مدركاً أن الاسم الحقيقي للاستيطان هو سرقة للأرض ومخالفة قانونية، وبالتالي فإنه ملزم بوضع ذلك في اعتباره أياً تكن «التسوية» التي يعمل عليها. هذا إذا كان مؤهّلاً أصلاً للتوسّط فيها.
* عبد الوهاب بدرخان كاتب صحفي لبناني