فيلم «أبي وابني» .. كيف روضت «الآلام الإنسانية» عسكريي تركيا؟

الاثنين 17 يوليو 2017 01:07 ص

فيلم هذه الظهيرة (Babam ve Oğlum) أو «أبي وابني» أحد أشهر الأفلام التركية المُتناولة للانقلابات العسكرية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، ورغم أن إصداره يعود إلى 18 من نوفمبر/تشرين الثاني في تركيا، و9 من مارس/أذار 2006م في دور عرض سينمائية أوروبية، إلا أن تاثيره المحلي مايزال باقيًا حتى اليوم، وقد سار على نفس خطاه الاجتماعية فيلم «قصتنا» لـ«ياسين أوصلو» المُنتج عام 2015م، وقد سبق أن تناوله من قبل، وكيف أن الرئيس «رجب طيب أردوغان» وزوجته شاهداه في بداية طرحه سينمائيًا.

أي أن فيلم الظهيرة لم ينجح في ذاته فحسب، بل خلق حالة سينمائية تركية لا تقف أمام الانقلابات كأحداث عسكرية حركت دبابات بفوهات مدافع وبنادق وما شابه، بل تتجاوز وتتعالى على الأحداث المباشرة، رغم أهمية الأخيرة، لترصد تأثير الانقلابات البالغ الإيلام على نسيج المجتمع؛ وكيف يتحلل ويتفكك وينصهر لتصبح الأُسر عرضة للنزاعات الشخصية والشجارات؛ بل المواقف الحادة القاطعة للعلاقات الإنسانية، وفي النهاية يتنكر الأب لابنه، ولا يجد الأخير ملجأ بصغيره غير طارده من قلبه وبيته أبيه..!

نكهة ورونق الواقع

فيلم الظهيرة يخلط الكوميديا بالميلودراما القاسية، ويجبر المشاهد خلاله على الابتسام والضحك رغم الفظائع التي يُجسدها أمامه، فنحن لسنا في حقيقة الأمر أمام فيلم يعتمد على تجويد تقنيات السينما، التي يراها الغرب أكثر من مهمة .. من صورة ومونتاج .. وتوازن بين المشاهد الداخلية والخارجية وفق الأحداث، بل إننا أمام عمل أقرب إلى التلقائية العفوية المعاشة أو ما يُسمى بـ«سينما الواقع» الناقلة للأحداث وفق منظومة تسجيلية كوميدية؛ ولذلك ففيما عدا الموسيقى التصويرية الرائعة لـ«إيفنتي ربتسيكا» لا تتوفر للفيلم المقومات الشكلية السينمائية المعروفة على النحو المشهور.

ولإنه من رحم الصدق يبقى كل شيء جميل فقد حاز فيلم اليوم قبول الأتراك وشاهده الغرب، بل اضطرت إحدى الشبكات التلفزيونية العربية الأشهر، ذات التمويل السعودي إلى ترجمته وبثه.

جملة فيلم الظهيرة المحورية يقولها بطل الفيلم «صادق» أو المُمثل (فكرت كوشكان) لأبيه القاسي الطبع حتى لكأنه بلا قلب «حسين» أو الممثل «شيتين تيكندور»:

ـ «لم أكن أنوي العودة إليك أبدًا .. لكنه آلمني أن يحيا ابني بلا دار كما عشتُ حياتي،  فيظل تائهًا كما تهتُ .. وأنت والدار موجودان .. أتراني أخطأتُ لما أتيتُ به إليك؟!».

لا يرد الأب على الفور على هذا السؤال .. وإنما في المستشفى حيث يلفظ نجله «حسين» أنفاسه الأخيرة، بعد قليل، يقول له:

ـ «أنت كل ما لدي .. سأُبقي على الصورة التي تحب أن يظل ابنك يراها لك .. فلا تقلق..!».

إننا أمام دراما بل ملحمة إنسانية تنطق بالواقعية وتنبض من مشاهدها، فللواقع رائحته النفاذة التي لا يجرؤ مؤلف، مهما كان، على مقاربتها، والفيلم الذي أنتجه وأخرجه وألفه «سيغان إرمارك» في 108 دقيقة عبارة عن لقطات واقعية من الحياة الاجتماعية لشعب طالما أضنته ومزقته وآلمته الانقلابات العسكرية، حتى إن انقلاب 1980م، وهو الذي يتناول الفيلم جانبًا كبيرًا من تداعياته، منع السينما التركية من تناول العسكريين وظلمهم .. فلما تبدلت الأحوال أكثر؛ وجاء حزب «العدالة والتنمية» وثقت السينما التركية الأحداث المضنية عبر سلسلة أفلام منها «الخطابات غير المرسلة» و«الجلاد الأخير».

عفوية البحث عن دار

رغم ان الفيلم يبدأ بمشهد بالغ القسوة إذ إن «آيسون» أو المُمثلة (توبا بويوكستون)، زوجة بطل الفيلم «صادق» تصيبها آلام الوضع قرب الفجر فلا تجد معينًا إلا زوجها، فخط الهاتف المنزلي لا يعمل، ولم تكن هناك أجهزة محمول في ذلك الوقت، ولا يفتح الجيران الأبواب، ولا يجد الزوج سيارة في الشارع الرئيسي فتموت زوجته بين يديه بعد أن تلد «دينيز» أو (إيجي تنمان) ، وفي الصباح تتوقف سيارة عسكرية لتخبره عن سبب هدوء مدينة إسطنبول الذي قتل الزوجة .. فلقد قام انقلاب عسكري مساء .. هكذا يقول الجندي له بهدوء!

أنجب «حسين» ابنه «صادق» ليكون سنده في الحياة، وأراد له أن يكون مهندسًا زراعيًا يساعده في فلاحة الأرض التي ورثها من أسرته الغنية واغتصب جزء منها عبر إرث زوجته «نورهان» (هوميرا) وشقيقتها «جوليابز» (أرقيق سيزر)، ولكن الابن رفض الانصياع لأوامر الأب الرأسمالي، بل ثار عليه ليدرس الصحافة في إسطنبول ويرفض ماله الذي جعل زملاؤوه يسمونه «البرجوازي الصغير»، ثم يتخرج صحفيًا معارضًا؛ رافضًا كل حياة أبيه بما فيها العروس التي أعدها له «بيريجول» «أوزكه أوزبرك».

وفي المقابل يحرم الأب ابنه من زيارة بيته، ويطرده من حياته، وعقب الانقلاب ووفاة زوجة الابن الثائر وولادة الحفيد «دينيز» يتم اعتقال «صادق»، فلا يخبر أباه «حسين»؛ وفي المُعتقل يذوق ألوان العذاب، حتى إذا خرج تم منعه من العودة إلى عمله ليحمل همومه وابنه وحقائبه إلى دار أبيه.

إن دار الأب في الفيلم هي الوطن الذي يقول عنه «صادق» لصديقه «أوزكان» (خالد أرغنج)  إنه لم ينجح في جعله (الوطن) يُحبه كما أحبه؛ وإن الأب الرأسمالي العنيف المغتصب لأملاك العائلة باسم الملكية المنحدر منها يمثل تمامًا العسكريين؛ فهو لا يعرف إلا مصاحته وإن جاءت على حساب جميع المحيطين به، وعندما يطرد الأخير ابنه «صادق» العائد بالحفيد؛ تثور زوجته، وتطلب الطلاق لأن تصرفات «حسين» الأب حرمتها دفء العائلة الكاملة والطرد أرحم لها!

وحين يحاول الأب الموائمة يكون الأوان قد فات بالنسبة إلى بطل الفيلم أو الابن «حسين» .. تمكن السل من إحدى رئتيه خلال فترة السجن، ويأسًا من أبيه امتنع عن تناول الدواء، وصار موته واجبًا مُحتمًا؛ إشارة إلى ما ضاع من تركيا عبر عشرات السنوات منذ عام 1961م بشكل مباشر .. بفعل الانقلابات!

يعزز الطرح الرمزي للفيلم، بل تشي به مشاغبات الحفيد «دينيز» ورؤويته الواقع من خلال عالم القصص بما فيها «حرب الاستقلال» التركية، ومحاربة العثمانيين لجده «حسين»، الذي يبدو في أحد تلك الحروب والمواقف القاسية مصاصًا للدماء.

إن الجميع مفكك يحارب من أجل الاستئثار بالدار، وإن الأب «حسين»، محور الفيلم وبطله الثاني، يفيق على كابوس أنه جلب الخراب لهم، وفقد واحد من ابنيه وإضاعة شخصية الآخر حتى ليسأله «صادق» قبل رحيله:

ـ لماذا أسميتنا إذًا .. مادمت تريدنا نسخة منك؟!

وياتي موقف النهاية بوداع «صادق» لابنه «دينيز»، رغم وفاة الأول، وإصراره على أن يصوره بالكاميرا السينمائية بل إخباره أنه وضع فيلمًا بها، وهو الميت، ثم أغنية الختام التي تقول إن ما مات الذي يجلب الحياة للوطن لتكتمل معزوفة الفيلم وملحمته الراقية برعاية الأب «حسين» للحفيد «صادق» . . وهو ما حدث في محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة التي حلت ذكراها الأولى منذ يوم وليلة .. إذ انحازت المؤسسة العسكرية التركية بأغلبها إلى الرئيس المُنتخب رغمًا عن إرادة جزء منها، رغم تاريخ عسكريي تركيا.

فيلم الظهيرة أغنية أمل جميلة؛ وكتاب رائع؛ وحبيبة تنمو على مهل، بحسب كلمات بطله قبل رحيله، وهو يُحذر أباه الرامز للعسكريين من عدم التعرض وإمتاع حياته بكل هؤلاء رغم أنه لم يمت بعد!

  كلمات مفتاحية

فيلم الآلام الإنسانية عسكريو تركيا ترويض