فيلم زمن خارج العقل: «ريتشارد غير» مشرد تطارده الرأسمالية الأمريكية!

السبت 22 يوليو 2017 08:07 ص

فيلم «زمن خارج العقل» للمخرج المُشارك في تأليفه «أورين موفرمان»، يُمثل تجربة جديدة في أداء نجم أمريكا الوسيم «ريتشارد غير»، بل أحد نجوم العالم المشهورين بالأدوار المُتزنة تجسيدًا لحياة أناس مُهمين غالبًا، أو في طريقهم لأن يصبحوا كذلك، وكما كان فيلم هذا الصباح ثورة على أدوار بطله ومنتجه معًا ترك علامة على أساليب السينما الأمريكية المعاصرة.

بلا قصة ومزيد من الشجارات

هذا الصباح نحن لسنا أمام فيلم بالمعنى المعروف للأفلام من وجود قصة أو حتى شبه حكاية تصنع دراما كوميدية أو تراجيديا، نحن لسنا أمام عمل سينمائي يعتمد على أحداث مقنعة .. أدى بعضها إلى بعض فأحدثتْ بداية للأحداث وتصاعدًا لها، ولو من دون ترتيب، ثم نهاية .. بل إننا في «زمن خارج العقل» أمام أسئلة، طوفان من الأسئلة يبدأ كمجرى نهر صغير عند دقائق الفيلم الأولى، عن البطل «غير»؛ الذي لا نعرف له حتى قرابة منتصف الفيلم؛ أو عبر الساعة الأولى منه، لا نعرف له اسمًا، ولا ندري لماذا هو مخدوش في جبهته وخده.. ثم لماذا يتشاجر مع جميع المحيطين به .. وكأن الحياة لديه سلسلة من الذهول وتيه العينين والتشرد وفي المنتصف الشجارات.

راهن «غير» على الفيلم فأنتجه، راهن على النجاح الساحق المدوي؛ وهو ما نجح فيه من قبل «روبرت ريدفورد» كبحار في فيلم «كل شيء قد ضاع»، وسار على خطوه «غير» حتى قيل عن فيلمه أنه أهم أعماله خلال عمره الذي جاوز الستين، وكانت  بدايات نجاح الفيلم الثورة على الأساليب التي تحاول أن تصبح مبتكرة في عالم هوليود وأوروبا بأن عمد البطل والمنتج إلى ما يُسمى بـ«سينما والواقع»، وإن سقط عمله في أجزاء مطولة منه في عالم السينما التسجيلية، بخاصة في ملجأ «بلفيو»، أكبر ملجأ للمشردين للرجال في مانهاتن.

إن المشاهد الواعي يدرك على مدار قرابة الساعتين أنه أمام مونولوج داخلي إنساني عن الحياة الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية عبر أحد أكبر مدنها نيويورك .. مونولوج عن حياة المُشردين وضحايا الرأسمالية المُتوحشة والأحداث الاقتصادية العاصفة بالمهاجرين مثلما تعصف بالمواطن .. والأمر هنا لم يكن يحتاج من السيناريست «جيفري كين» معه إلى أسلحة ولا طلقات رصاص ومطاردات.. بل إن تراكم المشاعر الإنسانية المُخجلة المُخزية يفعل في النفس أكثر مما يفعله الرصاص بمراحل، وإن دموع المُتجددة مع مواقف الفيلم، كلما خلا بنفسه درس في الإنسانية، رغم خطايا البطل..

قصة وفسيفساء درامية

يبدأ الفيلم بـ«غير» نائم في بانيو شقة مهجورة، ومدير البناية التي تقع الأخيرة فيها يطرده منها (أدى الدور ستيف بوسكيمي)، وحينما يفشل «غير» في العودة إلى الشقة، ولا يجد أُذنًا تستمع إلى حكاية «شيلا حبيبته التي لا يدري أين ذهبت وتركته، يخرج بحقيبته فتُسرقَ في الشارع بعد قليل لتصير أمام المُشاهد إشكالية على مستويين متدفقين: الأول يخص الشكل فمدير التصوير «بوبي بوكوفسكي» يعبر بالكاميرا من خلف زجاج الحانات والمطاعم وماكينات سحب الأموال والمستشفى والكنيسة والهيئات الحقوقية والملجأ.. ليصور «غير»، ثم في نهاية الفيلم بالإضافة إلى كل ما سبق يصوره عبر أسطح ونوافذ وأحيانًا طائرات، ليعطي المشاهد شعورًا بمقدار الحصار الواقع على البطل كشخصية غير مرئية في نيويورك.

أما المضمون فيتابع المشاهد اللقطات محاولًا معرفة مَنْ «غير»، وما الذي أوصله، وهو المسن لأن يكون مُشردًا في الشارع بلا مأوى أو حتى شهادة ميلاد أو إثبات للشخصية، ومع السؤال المتعدد للملجا وأماكن المُساعدة عن أي بطاقة أو مجرد رقم لهوية في مقابل كوبونات تغذية مؤقتة يشعر المُشاهد بالخزي لأن إنسانًا في أكبر قوة ودولة في العالم قد يصحو على كونه مجرد لا شيء.. تمامًا مثلما يحدث في العالم المُسمى بالثالث.

الملمح الأخير يقوله «جورج هاموند»، البطل، بعد أن نعرف اسمه، لزنجي ثرثار يلازمه في الملجأ والتشرد، وهو جملة الفيلم المحورية:

ـ «بعض الأشخاص يسيرون لا شيء لبعض الوقت..!».

في خضم الأزمة المالية العالمية تزاحمت الديون على «هاموند» ليخسر العمل والبيت، وهو الفنان الذي يترك الفيلم لنا خيطًا واحدًا يقول إنه عازف ماهر للبيانو، دون كشف لحقيقة عزفه أكان هواية أم احتراف، ومع الوقت يفقد زوجته وأوراقه الثبوتية إذ يشعر بعبثية حياته.

شحاذ المشاعر الإنسانية

لكن «هاموند» البطل الرافض لمساعدة مَنْ حوله للخروج به عن المحنة التي تلازمه من فقره الشديد واضطراره للأكل من القمامة والنوم على مقعد انتظار في محطة يظل يتردد على فتاة في حانة مرة ومغسلة أخرى وحانة ثالثة أخيرًا، ومن نظرات الاستجداء الشديدة وتعمدها إهانته بل طرده يدرك المشاهد أنها ابنته، ويستمر الأخير لمزيد من الوقت ليعرف أنها «ماغي» (جينا مالون) العاتبة على أبيها التي لا تخجل من القول له:

ـ «كيف أراعيك وكان من المفترض أن تراعيني؟».

وهي الجملة التي تجعله يمد يده ليشحذ ليرد لها أموالها، ويعترف بحالته النفسية قبل الاقتصادية المتردية ليصر على اتخاذ خطوة نحو استخراج شهاد ميلاد، وعندها تطرده ابنته من الحانة من جديد، وتنشغل مع صديق عنه .. ليبكي بشدة ويغادرها بخطى جريحة.

في آخر ثوانٍ من الفيلم يفضح الأمل مخطط صانعيه البالغ الإيلام .. إذ تسارع الابنة بترك الحانة، في اللحظة التي يدخلها زنجي جديد، لتهرول خلف أبيها أو «جورج هاموند» الضائع لتنقذه من مزيد من السقوط، وإن كان الفيلم كعادته لا يكمل المشهد والمشاهد التي بدأها كفسيفساء مبتورة ..!

ضد السياق والحروب الأمريكية

جاء فيلم هذا الصباح «زمن خارج العقل» ضد السياق الأمريكي والأوروبي المعاصرين ليكمل ثلاثية للمخرج «موفرمان» بدأها عام 2009 بفيلم «الرسول» مُتناولًا محن العائلات الأمريكية الوسطى الذين فقدوا أبناءهم كجنود في العراق، وفي 2011 أخرج «موفرمان» فيلم «رامبرت» عن فساد شرطة لوس أنجلوس وفي 2015 اكتملت الثلاثية بفيلم هذا الصباح الذي ناقش فيه ضياع الإنسان الأمريكي بين سياسات وطنه الفاسدة خارجيًا وداخليًا التي جعلت موظف الاستقبال في الملجأ يقول للبطل:

ـ «بعد 11 من سبتمبر تعلمت أني قد أقف مثلك خلف هذا الزجاج فأعددتُ إجاباتي فافعل مثلي!».

المصدر | الـخليــــج الجــديــد

  كلمات مفتاحية

فيلم ريتشارد غير مشرد مطاردة رأسمالية أمريكية