«جيوبوليتيكال فيوتشرز»: لمحة تاريخية حول توازن القوى في الشرق الأوسط

الثلاثاء 22 أغسطس 2017 07:08 ص

لا توجد وسيلة لشرح أوضاع الشرق الأوسط ببساطة. وتستند العلاقات المتشابكة في هذه المنطقة المضطربة إلى منافسات عرقية وفوارق دينية وانقسامات ثقافية قديمة، تزداد سوءا إلى حد ما بفعل حدودها الحالية، التي ترفض التعميم. ومن المستحيل شرح الشرق الأوسط دون شرح التنافس بين العرب، الذين تقودهم الآن السعودية ذات الأغلبية السنية، والفرس، بقيادة إيران ذات الأغلبية الشيعية. ويعد التنافس دينيا أيضا، بالنظر إلى أنه بدأ بعد وقت قصير من فجر الإسلام. ومنذ ذلك الحين، كان للعرب نصيبهم الكبير من السلطة، لكنهم كانوا يعانون من أجل استيعاب أو إخضاع الفرس. وفي الوقت الحالي، يبدو التأثير الفارسي آخذا في الارتفاع، في حين يعاني العرب من الضعف بشكل متزايد.

لكن الآن، تأتي زيارة «مقتدى الصدر» الأخيرة إلى المملكة العربية السعودية. وقد التقى الزعيم الشيعي العراقي ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان»، وريث عرش المملكة، موطن أقدس الأماكن في الإسلام السني. وتبع ذلك أيضا بلقاء مع الشيخ «محمد بن زايد»، في 13 أغسطس/آب. فهل كان من قبيل المصادفة أن يزور أحد أبرز قيادات الشيعة مثل «الصدر» السلطات السنية في هذا الوقت؟ وماذا يخبر ذلك عن النفوذ الشيعي؟

يمكن الإجابة على هذا السؤال جزئيا من خلال محنة العرب السنة، الذين يعانون من الاضطراب والفوضى في جميع أنحاء المنطقة. ويبين التقرير التالي كيف أن هذه الأنواع من الصراعات كانت لاعبا شبه دائم في الشرق الأوسط منذ فجر الإسلام، وكيف شكلت الشرق الأوسط الحديث.

صعود العرب

قبل الإسلام، كان العرب يقتصرون بشكل كبير على شبه الجزيرة العربية. وكانوا من البدو، المتحاربين. وفي الشمال من شبه الجزيرة، كانت هناك الإمبراطورية البيزنطية. وفي جميع أنحاء الخليج، هيمنت الإمبراطورية الساسانية الفارسية، التي امتدت من بلاد ما بين النهرين إلى جنوب القوقاز. وقد تقاتلت بشكل متقطع لأكثر من ثلاثة قرون. ولكن الأمور تغيرت مع ظهور الإسلام، وتشكل نظام حكم جديد في المدينة المنورة. وبعد 10 أعوام، عندما توفي النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وحل محله خلفاؤه، بدأت بشائر الإمبراطورية العربية الأولى، والمعروفة باسم الخلافة الراشدة، وشرعت في السيطرة على المسلمين العرب في شبه الجزيرة العربية بأكملها.

وخلال الخلافة الراشدة (632-661)، امتدت الحدود العربية إلى أراض كان يسيطر عليها البيزنطيون والساسانيون. وبقيت الإمبراطورية البيزنطية متماسكة، على الرغم من الخسائر الإقليمية، لمدة 8 قرون أخرى. ومع ذلك، انهارت الإمبراطورية الساسانية عام 650، بعد (الفتح) العربي للعراق (الآن) وإيران. (الخريطة: الإمبراطوريات الفارسية)

وقد احتل العرب الأرض الساسانية، لكنهم لم يستوعبوا تماما الفرس الذين يسيطرون عليها الآن. وبدلا من ذلك، قام العرب والفرس بالتعايش مع بعضهم بعضا، مع قبول امتزاج بعض الجوانب الثقافية من الجانبين، وأصبح الفرس «مسلمين» وتحول الإسلام ليكون «أكثر فارسية».

النهضة الفارسية

لكن العرب اعتنقوا الثقافة الفارسية بشكل أسرع من اعتناق للإسلام. واعتمدت الخلافة الراشدة العديد من الممارسات الإدارية للإمبراطورية الساسانية، بما في ذلك الهياكل الحكومية وعمليات السياسات والضرائب والقطع النقدية. وتبنت الخلافة الأموية (661-749) العديد من حكام المقاطعات الفارسية. وكانت اللغة الفارسية لغة الأعمال الرسمية حتى حلت العربية محلها بالقرب من نهاية القرن السابع.

وعندما أطاح العباسيون بالأمويين واستولوا على الخلافة عام 749، انتقلوا من العاصمة دمشق إلى بغداد، في قلب بلاد فارس. ومما لا يثير الدهشة، تسارع تحول الفارسية للإسلام خلال هذا الوقت. وقد اعتمدت اللغة الفارسية النص العربي، لكنها بدأت تصبح أكثر شعبية. وأصبح الفرس علماء وفلاسفة وعلماء دين، وبدؤوا في دخول صفوف الجيش والبيروقراطية التي كان يحتكرها العرب.

ومما يدل على عظيم تأثير الفرس، عندما انتشر الإسلام إلى آسيا الوسطى، فإن الشعب التركي الذي عاش هناك، تحول إلى النسخة الفارسية من الإسلام. غير أن العرب تداركوا الأمر. وبحلول القرن التاسع، بدأت الخلافة العباسية في محاصرة التقاليد الإسلامية الفارسية والتركية. وسيطر النظام العباسي على منطقة بلاد ما بين النهرين، التي لم تمتد إلى أبعد بكثير من بغداد. ولا تزال العديد من المناطق هناك سنية، لكنها كانت في الواقع تسيطر عليها النخبة الفارسية. وقد شملت الصفاريين (حكموا المنطقة التي تقع في المنطقة الحدودية بين إيران وأفغانستان المعاصرة)، والطاهريين (الذين تمركزوا في شمال غرب إيران) والسامانيين (الذين تواجدوا في آسيا الوسطى الحالية). وفي الواقع، انشق الكثير من الشيعة العرب عن العباسيين، وشكلوا تجمعات مستقلة في العراق وسوريا والمغرب ومصر.

وشكلت أحد هذه المجموعات، والتي عرفت باسم البويهية، أكبر تهديد للعباسيين، لكنها هزمت في منتصف القرن الحادي عشر من قبل الأتراك السلاجقة، الذين نموا بقوة في ظل الإمبراطورية العربية. وفي الوقت نفسه، خلق الفاطميون، وهم سلالة إسماعيلية شيعية، خلافة منافسة في شمال أفريقيا، سيطرت في نهاية المطاف على أجزاء كبيرة من بلاد الشام وساحل البحر الأحمر.

وبحلول القرن الثالث عشر، دمر المغول ما تبقى من الخلافة العباسية وتولوا السيطرة على الجزء الفارسي من العالم الإسلامي. وفي نهاية المطاف، تحول المغول إلى الإسلام، وأنشئوا ما كان عبارة عن أنظمة فارسية ذات عرق تركي، بما في ذلك التيمورية (1370-1507). وركزت القوات التركية في نهاية المطاف على مناطق في الغرب والشرق والشمال من القلب الفارسي، مما سمح للفرس بفرصة للعودة.

وجاء الإحياء الفارسي في شكل الإمبراطورية الصفوية (1501-1736). ووضع الصفويون أسس إيران الحديثة. واعتمدوا الإسلام الشيعي كدين رسمي للدولة، واستعادوا السيادة الفارسية على أراضي أسلافهم. وكان الصفويون في ذروة قوتهم يسيطرون على كل من إيران وأذربيجان وأرمينيا الحديثة وأجزاء من أفغانستان وباكستان وتركمانستان وأوزبكستان وتركيا وسوريا وجورجيا وداغستان. وبوجود المنافسة من الإمبراطورية العثمانية في الغرب والإمبراطورية المغولية في الشرق، خلف الصفويين في وقت لاحق أسرة قاجار (1795-1925)، التي بدأت مغازلة روسيا والمملكة المتحدة. وبعد القاجاريين، جاء البهلويون، الذين حكموا إيران حتى عام 1979، عندما أطيح بهم خلال الثورة الإيرانية.

ومن زاوية ما، لم يتعاف العرب قط من سقوط الأمويين و«فرسنة» الخلافة العباسية. واستمر العرب تحت قيادة بقايا الأمويين في السيطرة على أراض خارج العالم العربي، في شبه الجزيرة الإيبيرية، حتى عام 1492. وسقطت الأراضي في الشرق الأوسط في يد السلالات الفارسية والتركية. وقد استولت الإمبراطورية العثمانية على جزء كبير من بقية دول الشرق الأوسط في القرن السادس عشر، واستمرت في الهيمنة عليها حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعدها كان يديرها البريطانيون والفرنسيون. وكانت هناك بعض الاستثناءات الملحوظة في هذه الفترة الطويلة من الزمن، لكن الأنظمة العربية التي كان لها تأثير، بما في ذلك الفاطميين (909-1171) والزيديين (897-1962) والقرامطة (897-1068)، لم تكن سنية. والبعض الآخر مثل الأيوبيين (1171-1260) والمماليك (1250-1517) كانوا من السنة، لكنهم كانوا من الأكراد والأتراك.

العصر الحديث

أما الدول التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى فإنها كانت عربية،  إلا أنها تم إضعافها من قبل واضعي الخرائط الاستعماريين. وكانت الأنظمة التي تحكمها، سواء الجمهوريات العلمانية اليسارية أو الملكية التقليدية، ضعيفة، وبالتالي لم تكن قادرة أبدا على خلق اقتصادات سياسية قابلة للحياة. وتشهد إخفاقاتها في حقبة الحرب الباردة والحروب مع (إسرائيل) على ضعفها.

وقد حاول الشرق الأوسط الحديث الوقوف على قدميه (وفشل). وقد ألقت حرب الخليج عام 1991 بالمنطقة في حالة من الفوضى. ونمت الانقسامات العلمانية الإسلامية بشكل أعمق من أي وقت مضى. وتعد الإسلاموية نفسها مجزأة للغاية، مع تنافس الحركات الجهادية، وأبرزها الدولة الإسلامية، مع بعضها البعض على الزعامة.

ويفسر لنا هذا لماذا شهدنا منذ الربيع العربي انهيار البلدان العربية التي نمت من أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وأصبحت دول مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا خارج نطاق الإصلاح. وأكبر دولة عربية، مصر، التي كانت قبل بضعة عقود فقط دولة ناشئة رائدة ومركز ثقل المنطقة، أصبحت تعتمد الآن على منافستها السابقة، المملكة العربية السعودية، فضلا عن دول الخليج الغنية بالطاقة ووكالات الإقراض الدولية، لتستطيع الخروج من النفق المالي المظلم. ووقع عبء دعم المنطقة على عاتق السعودية، التي لا تزال، رغم ثروتها النفطية، دولة ضعيفة عاجزة عن ضمان الأمن والاستقرار الإقليميين، خاصةً مع استمرار انخفاض أسعار النفط.

وفي الواقع، لا يستطيع السعوديون حتى فرض إرادتهم على دولة عربية صغيرة مثل قطر، الأمر الذي أظهره النزاع بين البلدين. وقد قاومت قطر المملكة، مما يدل على أنها تفتقر إلى الثقة في قدرة المملكة على قيادة المنطقة. وفي الوقت نفسه، لا تزال الجماعات الجهادية مثل تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة تتحدى المملكة من أجل القيادة الدينية أمام أيديولوجية الرياض السلفية. ولا يزداد ضعف السعودية فقط، لكن مشاكل المنطقة تزداد.

وبينما ينحدر العالم العربي إلى حالة من الفوضى، تتجه الأنظار إلى إيران. ويعد هذا السيناريو مخيفا للسعوديين. وعلى الرغم من أن طهران لم تكن مثالية هي الأخرى، إلا أنها قد تفاوضت على اتفاق مع الولايات المتحدة وفر لها راحة من نظام العقوبات. ولدى حلفاؤها الشيعة العرب اليد العليا في العراق وسوريا ولبنان. وكذلك تبدو الساحات الشيعية الأخرى، مثل اليمن والبحرين وحتى المنطقة الشرقية من السعودية، واعدة من وجهة نظر إيران.

ولقد أدى انهيار النظم الاستبدادية في العالم العربي إلى خلق مساحة للجهاديين والجهات الفاعلة الإسلامية الأخرى، فضلا عن الجهات الفاعلة غير العربية، لإثبات الوجود. وستستمر إيران في الاستفادة من الفرص الناشئة في دول العالم العربي، التي لم تعد قادرة على الاعتماد على الولايات المتحدة لتوفير أمنها. وإذا أراد العرب الحد من مدى قدرة الفرس على نشر نفوذهم في المنطقة، فعليهم أن يتحولوا إلى جهة خارجية أخرى، وهم الأتراك.

وقد وسع العرب من نطاق نفوذهم خارج شبه الجزيرة العربية، ذات الأهمية الجيوسياسية، في مناسبتين فقط في التاريخ، خلال ظهور الإسلام في القرن السابع، ومع اكتشاف النفط في القرن العشرين. وفي القرون ما بين ذلك، كان النفوذ العربي محدودا للغاية. ولعل العالم العربي يتراجع الآن إلى الوسط التاريخي.

  كلمات مفتاحية

الشرق الأوسط السعودية إيران السنة الشيعة