«ستراتفور»: في مكة .. فصل الدين عن الدولة ليس أمرا سهلا

الجمعة 8 سبتمبر 2017 08:09 ص

وصل هذا العام أكثر من 2.3 مليون شخص من أجل أداء فريضة الحج، والحج إلى مكة المكرمة فريضة مطلوبة مرة واحدة على الأقل في العمر من كل مسلم قادر ماليا وجسديا على إكمال شعائر الفريضة. ولم يكن هناك كارثة هذه المرة في جسر الجمرات، حيث تم العمل على تسهيل الاختناقات في شعيرة «رجم الشيطان» لتقليل المخاطر القاتلة التي كانت موجودة من قبل. وفى معرض إشارته إلى السلامة النسبية لحج عام 2017، أعلن رئيس لجنة الحج الوطنية النيجيرية أن هناك سبعة وفيات فقط بين الحجاج من بلاده، وأن ذلك يعزى إلى الوفاة الطبيعية نتيجة الأمراض. وأكد أن «معدل الوفيات المسجل هذا العام هو الأدنى في الأعوام الـ 10 إلى 15 الأخيرة».

ومن الواضح أن هذا كان خبرا سارا للحشود السنوية من الحجاج الكرام، ومعظمهم الآن وصلوا إلى الوطن من المملكة العربية السعودية، بعد الانتهاء من شعائر الحج في 3 سبتمبر/أيلول. وقد رأوا الكعبة التي يولي إليها المسلمون وجوههم خلال الصلوات اليومية، وقد زار كثير منهم المدينة المنورة، حيث نشأت الدولة الإسلامية الأولى، وحيث قبر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).

ولا يمكن تجنب الوفيات تماما في الحج. وفي بعض الأحيان، يشارك الناس في الحج في وقت متأخر من العمر، على أمل أن يموتوا في الأرض المقدسة. وعلى الرغم من وجود 25 مستشفى، و155 عيادة طبية متطورة في المستشفى الوحيد في العالم الذي يفتح ليوم واحد فقط في السنة لخدمة ملايين الحجاج الذين يصلون إلى جبل عرفات في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، فإن ذلك لا يمكن تجنبه إحصائيا.

لكن انتصار هذا العام يكمن في سير الأمور طبيعية في كل شيء. فلم يكن هناك أي تدافع كما حدث عام 2015، ولا وجود لأي حرائق كما حدث عام 1997، ولا وباء الكوليرا كما في ستينات القرن الـ 19 ومطلع القرن الـ 20. ومع ذلك، كان هناك سلبيات غير طبيعية في هذا الحج، فقد منع الحجاج القطريون من المشاركة في حج هذا العام.

استجابة لدعوة إبراهيم

وقد بدأ الحج استجابة لأمر الله لإبراهيم كما ذكر القرآن الكريم في سورة الحج:

"وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ". (سورة الحج: 27-29)

وقد سبقت دعوة إبراهيم اليهودية والمسيحية والإسلام. لكن عندما نادى إبراهيم في أتباعه بالتوحيد، كان يقصد بالحج أن يأتي الناس ويطوفون حول الكعبة. ولم يكن يشمل ذلك الوقوف على عرفات أو «رجم الشيطان»، والتي أدرجت لاحقا كشعائر إسلامية.

ومنذ عام 630، عندما سيطر النبي «محمد» وأتباعه على مكة المكرمة من قبيلة قريش القوية، أصبحت ولاية الحج للمسلمين. وبفضل تدخلات لورانس العرب قبل 100 عام من هذا الشهر، وتحالف آل سعود مع البريطانيين ضد الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، أصبحت ولاية الحج اليوم تتبع ملك السعودية، أو ما يعرف أكثر بخادم الحرمين الشريفين.

وجاء حج هذا العام في الوقت الذي كان فيه الملك على خلاف مع قطر. وفي أعقاب قرار السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة والبحرين بقطع العلاقات مع قطر في ربيع هذا العام، والذي تلاه الحصار وإغلاق الحدود في 5 يونيو/حزيران، توقف التعاون بين المملكة وقطر. ولكن في 17 أغسطس/آب، أعلنت الرياض أنها ستفتح معبر سلوى الحدودي أمام الحجاج القطريين. كما أمر الملك السعودي «سلمان» بأن ترسل الطائرات السعودية لنقل الحجاج القطريين من المنطقة الشرقية من المملكة إلى جدة ثم إلى مواقع الحج.

وعلى الرغم من ترحيب وزير الخارجية القطري الشيخ «محمد بن عبد الرحمن آل ثاني» بالقرار، إلا أنه حذر من أن الحج لا ينبغي تسييسه. ثم طالب بتمديد تخفيف أزمة الحدود لرفع الحصار بأكمله. وقد تحول الوضع إلى حملة بين البلدين على موقع تويتر. وبدلا من المرور العادي والمنتظم بين الدول المتجاورة، فات موعد الحج على الحجاج القطريين.

ولا يعد تسييس الممارسة الدينية في هذه الأزمة فريدا من نوعه. وكان الملك هنري الثامن قد انفصل عن روما بسبب مسألة الطلاق. وفي الواقع، كان نص الدستور الأمريكي محاولة لفصل السياسة عن الدين.

كما واجه الحجاج صعوبة في زيارة مكة في الماضي بسبب ظروفهم السياسية. وعلى سبيل المثال، سمحت السعودية بدخول الحجاج الإيرانيين للمشاركة في الحج من قبل. لكن الانتقاد يتصاعد تجاه هيمنة المملكة على مدينتي مكة والمدينة وسيطرتها من جانب واحد على من قد يزورها أو لا يزورها. وكما كتبت في ديسمبر/كانون الأول عام 2015:

«لقد بدأ القادة المسلمون ... يشيرون إلى أنه قد حان الوقت لأن يتخلى آل سعود عن سيطرتهم المطلقة على المدينتين اللتين تقعان ضمن الحدود الجغرافية للمملكة، وأن هيمنة السعوديين على مكة والمدينة كانت نتيجة الغزو وليس الانتخاب، مع تزايد الاحتجاجات ضد إدارة المملكة للحج، وتفاقم الظروف غير الآمنة للحجاج، والتدمير المتفشي في المملكة للمواقع الأثرية في المدينتين لإفساح الطريق أمام الفنادق الفاخرة والمباني الشاهقة المتزايدة باستمرار، وقد يصبح الدفع ضد دور المملكة المتشدد أقوى مع مرور الوقت».

وفي الآونة الأخيرة، نقلت قناة الجزيرة عن «سعد سلطان العبدالله»، مدير التعاون الدولي في اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر، قوله: «يجب ألا يكون هناك خلط بين النزاعات السياسية وحق المسلمين الطبيعي والإنساني في أداء واجباتهم الدينية». وقال «عبد المجيد مراري»، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تحالف الحرية والكرامة، الذي يتخذ من بروكسيل مقرا له، إن السلطات السعودية أساءت التصرف أيضا. وقال لـ «الجزيرة»: «مكة المكرمة ليست مملوكة من قبل أي حكومة، ومكة المكرمة لجميع المسلمين، والسلوك السعودي هو انتهاك واضح للقيم والمعايير الإسلامية، فضلا عن جميع الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان».

الاقتصاد السعودي

مع رغبة الجماهير في أداء فريضة الحج، لم تكن هناك احتجاجات شعبية ضد هيمنة أو احتكار الملك السعودي للفريضة حتى الآن. ولم يكن هناك سوى ارتفاع في مطالب الحجاج بتسهيل وزيادة الحصول على تأشيرات الدخول وما يصاحب ذلك من تطوير في البنية التحتية لدعم الحج.

وقد ظهر على ملايين الحجاج راحة نسبية تجاه قلة الأزمات في حج هذا العام. ويأمل كثيرون آخرون أن لا يفسد الحجاج المسيسون الحج العام المقبل. وفي أعقاب نجاح واضح للبنية التحتية في المملكة العربية السعودية، يتساءل العالم ماذا ستقدم المملكة في ما هو قادم لإغراء الزوار المتدفقين إلى حدودها بإعلان الولاء.

وفي وقت ما في المستقبل غير البعيد، قد يكون الحجاج قادرين على تمديد تأشيرات الحج الخاصة بهم لاستكمال الرحلة سياحيا، مع التمتع بالضيافة في المجتمعات السياحية الجديدة على ساحل البحر الأحمر لشبه الجزيرة العربية. وفي محاولة لتنويع اقتصاد بلاده بعيدا عن النفط والحج، يمضي ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان» قدما في خطة رؤية 2030 للإصلاح في الرياض، وهو اقتراح يدعو إلى الحفاظ على «تراث متطور»، واستعادة المواقع الثقافية القديمة.

ولهذه الغاية، أعلنت الحكومة السعودية الشهر الماضي عن تطوير منتجع في جزيرة على البحر الأحمر، مع تخفيف القيود المفروضة على المسافرين الذين يحملون تأشيرات سياحية. وفي الوقت نفسه، كانت رحلات التخييم في الصحراء خارج جدة، شعبية بين المغتربين لعقود. وقد تكون هناك فرص لتوسيع تلك المغامرات كذلك. وإذا فتحت المملكة مواقع التراث الثقافي ومسارات المشي الجديدة أمام العديد من الحجاج الذين يزورونها كل عام، فسيخلق ذلك تيارا آخر من الإيرادات للرياض، وبوابة طبيعية لتحسين رحلة زوار البلاد والاقتصاد على حد سواء.

المصدر | أنيسة مهدي - ستراتفور

  كلمات مفتاحية

السعودية مكة الحج الاقتصاد السعودي