يكفي الشامخة «الأحساء» أنها علمتنا - بصدق - كيف أن السؤال الكريه الملغم: إلى أي مذهب تنتمي؟ هو سؤال مستهجن مرفوض في واحة ذهبية رضعت مع حليب الأمهات الجملة الأكثر دفئاً وعمقاً: ما أجمل أن نعيش بعيداً عن الألسن التي تلقن الكره، وتقتات على مفردات التشكيك وتحتضن عن حب ولا تعرف الطعن في الظهر.
في قرية «الدالوة» بهذه المحافظة النقية الجاذبة بنخلها وناسها وسمائها وهوائها، كان الجرح سعودياً خالصاً، تفاعل معه العقلاء الوطنيون الذين يؤمنون بأن وراء هذه المجزرة فعلاً إرهابياً لم يكتف من قبل «بالدالوة»، بل عبر بدناءة إلى القرى والمدن السعودية، وحاول أن يصنع مجازر أخرى، الفارق في مجزرة الأحساء، أنه اختار توقيتاً قابلاً للتأويل، ومحيلاً اللعبة القذرة إلى عفن طائفي يمضي من خلاله المأزومون إلى مآربهم المدمرة والمرسومة بعناية فائقة لتفكيك نسيج وطعن وطن. نحتاج إلى أن نكبر مع المواقف لا مع السنين، والسنة والشيعة لا بد أن يكونا ضد الفتنة وضد من يحاول ضرب النسيج الوطني من خلال المذهبية المقيتة، والرمي بأحجار الطائفية في المياه الراكدة، لم تكن هذه الأفعال قادمة من السماء، قدر ما كانت نتاجاً للصمت والقفز من مساحة إلى أخرى بحجة أن المساحة المنتقل منها لا تعنينا في الوقت الحالي، هذه الأفعال نتاج للتحريض المدروس في عقول الظلاميين والمعتوهين فكرياً، ومن الغباء الرفيع الدرجات أن نجمع الشيعة في سلة واحدة، أو نجمع السنة في سلة مماثلة، ففي ذلك نوع فريد من الغباء الطائفي الذي لا يثمر إلا قيحاً فكرياً وصديداً نفسياً ترتفع درجاته يوماً بعد يوم، وللسعودي السني والسعودي الشيعي أن يؤمنا بأن عدوهما الحقيقي من يحاول ويقاتل ويخطط ويرسم لأن يولد العداوة ويوقد الفتنة، من أي منبر كان وفي أي أرض ولد.
السعوديون على المحك بالفعل نحو إغلاق كل المنافذ التي تؤشر لإمكان أن نتحول بتأثيرها إلى مسخ بشري، ومن ثم برك من الدماء وفواجع لا نقف أمامها إلا مصدومين متألمين صامتين، السعوديون - شيعة وسنة - عليهم أن يؤمنوا بأن المحاولات مستمرة، وعلى قدم وساق، ممن لا يسره أن نكون بخير وفي خير، ويبهجه أن نعيش إرباكاً منقطع النظير، على السعوديين أن يكونوا يداً واحدة كي لا ننزلق في خطاب طائفي يجر الويلات ويهدم البناء، الطائفية نار لا تفرق بين سني وشيعي، ولكي لا نكتوي مجدداً بهذه النار، نظل في انتظار تعرية شجاعة لكل المؤججين التكفيريين، وتجريم معلن لمن يعد أطباق الكراهية المسمومة ويتفنن في توزيعها من دون أن يسأله أحد: لماذا؟ ولأجل من؟ وللأحساء وأهلها الذين يتنفسون طيبة وبساطة وشعراً، أقول لهم ما باح به الصديق الشاعر مفرح الشقيقي:
أحساءنا لا تحزني إنا هنا .. متوحدون ويخسأ الخذلان
ما دمعة من نخلة سقطت أسى .. إلا وضمت حزنها الأحضان
نبكي معاً ويصوغنا وطن وَفِي ... نأبى تفرقُ شمله النيران
وسنظل ناقمين غاضبين ملاحقين كل من ضخّم فينا خطاب الاختلاف ولم يعمّق أصول وإضاءات ومتعة التعايش الوطني، لأن القتل والإرهاب لا دين ولا طائفة له، فمن قتل بالأمس شيعياً بريئاً قتل بعده بساعات سنياً بريئاً، وما بين هذين المشهدين يكون الوطن إزاء فتنة لا يعيها إلا الكبار، وسنتجاوزها بعقول الأسوياء.