«قدرات غير عادية»: السينما المصرية تتنكر لثورة يناير عائدة لأفلام النكسة!

الاثنين 7 نوفمبر 2016 07:11 ص

«كل أجهزة الدولة المصرية سوف تساهم معنا في البحث عن موهبة ذات قدرات غير عادية».

الجملة السابقة مفتاح فيلم قدرات غير عادية للمخرج والمؤلف السبعيني «داود عبد السيد»، فلكل عمل درامي سينمائي جملة تعتبر مُفتتحاً تقود المشاهد عير دهاليزه، وتنطق بما في داخل المؤلف من معانٍ، او حتى رغبات دفينة أجاد أو لم يجد تحويلها إلى صورة، وبقدر صدق الجملة بقدر نفاذ الفيلم إلى داخل نفوس المشاهدين، وتعبيره بصدق أو خداع عنهم، وبقائه في الوجدان الشعبي البعيد عن السلطة وسيفها القامع للمناهضين، وذهبها المنثور أسفل ضمائر وأقدام المُنافقين وفيهم ومنهم صُنّاع الأفلام ومخرجيها، إلا مَنْ رحم ربي.

في قلب المأساوات التي تعيشها مصر عقب أحداث عام 2013م الدامية، وغير المتكررة في التاريخين الحديث والمعاصر، والنادرة على مدار التاريخ كله، وبعد مجازر بالغة السوء هددت السلم الاجتماعي المصري في البلاد في مقتل، فبعد مذابح رابعة، والنهضة، ورمسيس 1، 2، وما سبقها وما تلاها، وبعد وفاة عدة آلاف من خير مَنْ أنجبتهم مصر فيها، واستمرار طوفان الدماء حتى اليوم، يخرج علينا المخرج «عبد السيد» بفيلمه الأخير: «قدرات غير عادية» ليقول في جملة الفيلم المفتتحة والمُحركة له: إن الدولة المصرية جندت إمكاناتها للبحث عن موهبة غير عادية.. وهو طوال الفيلم يجسد البحث والفقد، فيما يخجل من التصريح بالانتهاك (الإسرائيلي) للبلاد، لكنه يجسده في دلالات من تصوير إقامة بمناطق دبلوماسية، وحرس ذويّ ملامح معينة، ولكنّة حديث غير مصرية صرفة ولا حتى عربية.

سينما النكسة

عقب الهزائم الكبرى في تاريخ الأمم والشعوب المعاصرة تخرج السينما بأفلام بالغة النقاء، حيناً، تحاول معالجة الأمور، والدفع بها نحو النجاة، وأخرى بالغة السوء مغرقة في الجنس، والطعن في المعتقدات منتهزة الفرصة لصناعة نصر كاذب للقائمين عليها، أحياناً أخرى، فكما تم إنتاج أفلام بالغة السوء من مثل من مثل: «لوعة الحب»، «حمام الملاطيلي»، «ذئاب لا تاكل اللحوم»، «امرأة الأقمار السوداء» عقب هزيمة 1967، تم إنتاج أفلام أخرى جيدة على النقيض من مثل: «ميرمار»، «شىء من الخوف».

ولكن عسكر مصر سمح بعد هزيمة 67 للسينما بالإغراق في الجنس على نحو غير مسبوق، وأيضاً ذراً للرماد في العيون سمح بأفلام في الاتجاه المعاكس قليلة، ربما حرصاً على الظهور بثوب شبه نقي.

ومن آسف فإن «عبد السيد» شارك في عام 1969 في فيلم «الأرض» لـ«يوسف شاهين» كمساعد مخرج، وهو يصف تلك الفترة بأنها كانت كابوسية في حياته، مع إنها حفلت بسقف حرية ناله الرجل ولديه 22 عاماً لم يصله في عمر السبعين بفيلمه الأخير (عبد السيد مواليد 1946).

على أن الأمر الأعم الذي نشير إليه هنا، ونتمنى أن نفصل فيه لاحقاً هو أن مفردات سينما نكسة، بمعناها السيء، أو هزيمة جديدة، كالتي سبقت في 67 تتشكل اليوم، بمباركة ومساعدة «العسكر» اليوم، وفي ظل غياب شبه كامل لمخلصيّ وشرفاء مصر المشغولين بالمطاردات والاعتقال والقتل والإصابة، خفف الله عنهم، وإلا فمن يصدق أن آخر أفلام الراحل «محمد خان» يجىء بمثل هذه «السطحية» والوقوع في فخ الجنس وخواء المضمون «قبل زحمة الصيف»، وهو ما لم ينج منه «عبد السيد» في «قدرات، بل زاد عنه.

البحث عن إشكالية

في فيلم «الكيت كات» عام 1991 انشغل «عبد السيد» بالبحث عن شهرة جماهيرية وتثبيت أقدام في عالم السينما، فاضطر إلى إعادة تجسيد رواية «مالك الحزين» للأديب «إبراهيم أصلان» سينمائياً، فكان العمل بمفردات معيشية وأسئلة ملغزة تخص الدين أقل من بقية أعماله الأخرى، وفي «أرض الأحلام» عام 1993 ثبّتَ «عبد السيد» أقدامه أكثر في جماهيرية الأعمال السينمائية باستخدام الراحلة «فاتن حمامة» في فيلم إن لم يحقق دخلاً مادياً هائلاً فقد عبر عن آلام المصري في بلاده، وحنينه إلى الهجرة وتركها، بدلاً من العكس، إلا أنه بعد ذلك نحا واتجه نحو الأسئلة الإيدلوجية المشككة في العقيدة، المحاولة الضرب في روح الإيمان (عبد السيد مسيحي) في فيلم «أرض الخوف»، إذ خلط المخرج والمؤلف «عبد السيد» بين الأسئلة الوجودية وبين الجنس، والخوف، وتجارة المخدرات، وخلص إلى عبثية الحياة في فيلم أثار جدلاً في عهد «مبارك» خبا وقل بفضل الترميز الذي يبرع المخرج فيه، وبفضل العلمانيين الذين شهروا أفلامهم مدافعين عن الفيلم ضد كل الذين حاولوا قول كلمة حق فيه.

ومن «حمدي غيث»، «محمد أبو زهرة،»، و«أحمد زكي»، أبطال فيلم «الخوف»، إلى المذيع في قناة النيل التلفزيونية الحكومية للمنوعات سابقاً «خالد أبو النجا»، وزميلته «نجلاء بدر»، مع الإبقاء على «حسن كامي» المغني الأوبرالي مرحلياً، و«محمود الجندي» بعد أن فقد بريقه الدرامي فصار يبحث عن المال، إلى «سامي مغاوري» في دور شيخ طريقة السيدة زينب، وهو دور يفتقد إلى التعقل قبل المنطق ..قدم «عبد السيد» آخر أفلامه وأكثرها فشلاً في 2014: «قدرات غير عادية».

انهيار سقف الحرية

لـ «أبوالنجا» تجربة مع نفس المخرج والمؤلف، بحضور «شعبان عبد الرحيم»، هذه المرة، و«هند صبري»، في «مواطن ومخبر وحرامي» 2001، وهو الفيلم الذي انتهز فتات الحرية في عهد «مبارك» ليقول إن «المواطن» و«المخبر» و«الحرامي» قد انصهروا في بوتقة فساد المخلوع.

ولكن الأمر اختلف تماماً في عهد الرئيس «السيسي» ونظامه الانقلابي، و«عبد السيد» الذي يرمز في أفلامه إلى عدم وجود الله تعالى (مشهد محمد أبو زهرة مع أحمد زكي في المسجد في «أرض الخوف» وهو يقول له أن رسائله وصلته بالمصادفة، وأنه يعيدها لأنه ليست هناك جهة تستقبلها ، وهي الرسائل التي كانت ترمز إلى الصلة بين الله والإنسان) لم يستطع أن يفتح فمه تجاه جبروت العسكر، وصارت القصة لديه تزحف إلى الداخل والترميز أكثر.

طالب الدراسات العليا في كلية الطب «يحيي»، ينبغي التدقيق في رمزية الأسماء، لا يجد في المصريين موهبة نادرة، وهو يجري دراساته عن الأمر، فيهجر الحياة إلى أبوصير بالإسكندرية، في أجواء بعيدة تماماً عن الواقع المصري ومعاناته الاقتصادية، ليقيم في فندق شعبي، في سرقة ذات دلالة لفيلم «ميرمار» «نجيب محفوظ» ومحاولة للارتقاء بالفيلم الأخير فاشلة من آسف، وهناك يلتقي بمجموعة من مجانين البشر كما يصفهم الفيلم، لا نعرف من أين يأكلون ولا أين أسرهم، وعلى رأسهم صاحبة المكان «حياة/نجلاء بدر» وابنتها «فريدة/مريم تامر».

وهناك يجد «يحيي» بغيته ومراده في «فريدة» ذات السنوات التسعة، التي لا تتلقى تعليماً، فهي تحرك الأشياء، وتتنبأ بما سيحدث، وهذه هي القدرات الخاصة لدى «عبد السيد»، فلا مجهود ولا عمل جماعي،ولا رغبة في حراك ديمقراطي أو تقدم لمصر، فقط اعتماد الخرافات كحقائق.

ولأن البلد تدور في كابوس الداخلية فإن المباحث (الرحيمة في الفيلم) تشم خبر بوجود وقدرات «فريدة» إلا أنها تتركها بعد تدخل «عمر البنهاوي»، الذي يقدم صورة لـ(الإسرائيلي) المقتحم للعمق المصري في بساطة، حتى إنه ليخطف «حياة» من «يحيي»، والأولى ترمز إلى مصر ، لكنها تلفظه وتحرق أماكن إقامته معها فيضطر إلى طلاقها.

شماتة وتشفٍ

وفي مقابل كؤوس الخمر الموزعة على أغلب مشاهد الفيلم بالتساوي يبدو «الملتحي» فيه عدواً للحياة، فـ«حياة» البطلة، زوجها الفنان العائد من دولة عربية، لم يستطع المخرج النطق بأنها (السعودية)، صار (متطرفاً) ينكر أبوته لابنته وينسبها إلى (الشيطان)، والملتحون، أيضاً،  طاردوا المتعة (السيرك)، ومبلغو الأمن في «فريدة» .. في ابتذال ونفاق واضح للسلطة في مصر وقلب للآية غير مبرر، كما أن «حياة» تلجأ إلى الحجاب كلما أرادت الهروب من الواقع في مشاهد اكثر من مفتعلة.

وفي المقابل سمحت السلطات الانقلابية لـ«عبد السيد» بما لم تسمح له به من قبل، فبعد أن كان أقصى طموح له أن يصور في مسجد قديم (أرض الخوف) دقائق، جسد مولد «السيدة زينب» بالكامل، وتم فتح مسجدها له والمنطقة المحيطة، ليخطو «أبو النجا» بحذائه داخل المسجد، ويقول «سامي مغاوري» عن الطرق الصوفية أنها تهب الناس السعادة مقابل انكساراتهم التافهة، وهو يقصد «فشل الثورة»!

نهاية مدمرة

يترك الضابط (الإسرائيلي) الطفلة (مستقبل مصر)، بعد استخدامها في أنشطة مخابراتية، وأمها لكنه يطاردهم عند باب الفندق في هيئة ملتحٍ وأفندي مرات ومرات، والكل يطرده، ويعود «يحيي» إلى «حياة» ويصبح الجميع ذوو قدرات غير عادية لمجرد أنهم أغلقوا بابهم عن رمز (إسرائيل) والمُلتحين.. ليقدم الفيلم وجبة (فريدة) من الاتكالية والنجاح الحياتي لأبطاله غير المبرر.

موسيقى «راجح داود» التصويرية عبرت عن مشاهد الفيلم في مجملها بشىء من التوفيق غير قليل، وبما لم يحققه ديكور «أنسي أبوسيف» على الدوام.

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

قدرات غير عادية نكسة ثورة