فيلم «عقل جميل»: قصة عالم أمريكي عبقري مضطرب .. وزوجة وفية

السبت 26 نوفمبر 2016 08:11 ص

بعض الأفلام السينمائية يزيدها مرور السنوات قدرة على إثارة الجدل داخل نفس المشاهد قبل الناقد والمتابع المحلل، وبقدر ما نرى أفلاماً حديثة لا نرى فيها داعياً للكتابة من الأساس، إما لتفاهة الفكرة، أو عدم النجاح في تحويل النص المكتوب إلى عمل سينمائي ناضج، بقدر ما تجذبنا أعمال مرت عليها سنوات.

فيلم «عقل جميل» (A beautiful min) فيلم أمريكي صدر في ديسمبر/كانون الأول عام 2001، عن القصة (العلمية) لحياة عالم الاقتصاد الأمريكي «جون فوربش ناش»، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1994 عن نظرية التوازن الاقتصادي، ومن المفارقات أن «ناش» عانى طوال مسيرته العملية العلمية عدم الاتزان، والتي اطلعنا الفيلم عليها، متجاهلاً، تمامًا، طفولته ومراحل النشأة والتكوين التي أدت به إلى أن يكون مريضاً بالفصام العقلي، ونيله جائزة «نوبل» في نفس الوقت، وهي مفارقة كانت ستزيد من توهج الفيلم نوعاً ما، وإن كان الفيلم أبرز دور الحب والعلاقة الزوجية بوجه خاص في الانتصار على آلام الحياة رغم بشاعتها، وهو ما يُحسب له بمقدار كبير!

إلا أن هناك نقاطاً، من الواجب التوقف أمامها قبل التعرض إلى الفيلم، أبرزها ما قاله الراحل الدكتور «أحمد زويل»، الحائز على نوبل في الكيمياء لعام 1999، والمُتوفى في 2 من أغسطس/أب الماضي، عن تلخيصه لسر تفوق الغرب، وتأخر أوطاننا العربية الإسلامية إذ قال: «هم يأخذون بيد الفاشل حتى ينجح، ونحن نأخذ بيد الناجح حتى يفشل».

أما ما فعله الفيلم فأكثر من هذا إذ حرص مخرجه «رون هوارد» على تكثيف أحدث التقنيات السينمائية، وتضفيرها مع السيناريو، والتلاعب بمساحة الخيال في الدراما، بل خداع المشاهد، في إطار تشويقي، لجذب تعاطفه مع «ناش»، على مدار 134 دقيقة تقريباً، إلى الحد الذي دفعه إلى تغيير جانب من وقائع حياة عالم الاقتصاد لكي يجعل منه أكثر نبلاً ودماثة خُلق لدى المشاهد، لا مما هو الحال في الواقع، بل من القدر البشري المُتاح على الأرض.

ساعد المخرج على تحقيق هدفه، بتجسيد «ناش» كعالم الأمريكي متفانٍ في علمه حد الجنون، المخاصم لواقعه حد إيداعه مصحة للأمراض العقلية والنفسية، المتلاشي في رغبة تقدم بلده لدرجة تناسي رغبات الحياة البيولوجية التي لا يستغنى عنها إنسان، ساعد المخرج على تجسيد الأمر بهذه الصورة سيناريو «أكيفا جولدسما»، المستوحى من أفضل الكتب مبيعاً، وكان الكتاب، الذي تحول إلى فيلم، رُشِحَ إلى جائزة «بوليترز» عام 1998م، وإن لم تنلها «سيلفيا نصار»، فقد نال الفيلم 4 من جوائز «الأوسكار»، منها أفضل فيلم، أفضل مخرج، أفضل سيناريو، وأفضل ممثلة مساعدة.

خداع مبالغ فيه

لدى مخرج الفيلم، والمؤلفة، وكاتب السيناريو إشكالية كبرى هي أن «ناش» البطل الأمريكي المعاصر للحرب العالمية الثانية، قد يكون ساهم في مقتل عشرات الآلاف من الأعداء، فهي معلومة لا ينفيها الفيلم، وإنما يوردها دون تيقن منها، بخاصة والبطل مريض بالهلاوس السمعية، ويتحدث إلى مخلوقات غير مرئية تاركاً الواقع وراءه، فكيف يتأتى أن يظهر هذا على شاشة فيلم أمريكي؟ والأفلام الأخيرة تحرص على إظهار البطل، وهو يتحدى لا الواقع الحقيقي من حوله بل الكون، ليكون «روبرت» أحياناً ينسف المخلوقات القادمة من الكواكب الأخرى، وعملاقاً أحياناً أخرى يمتص دماء غير المؤدبين من البشر، من متحدي الحضارة الأمريكية.

عمد المخرج إلى حيلة سينمائية يتكاتف فيها النص مع السرد، مع تقنيات التصوير والديكور و الإضاءة، والتركيز على تفاصيل مفتوحة على الفهم ونقيضه تماماً لدى المشاهد، مع التأكيد، طوال الوقت على نقاء البطل وفرط معاناته، أما مدة خداع المشاهد هلى الشاشة فتأخذ قرابة ثلثيّ وقت الفيلم، فـ«جون ناش» أو الممثل «راسل كروز» قادم من بيئة مجهولة تماماً للمشاهد، إلى جامعة  «برينستون»،  طالباً متخرجاً حديثًا، و هو حائز علي جائزة «كارنيجي » المرموقة في الرياضيات، ورغم وعد جامعته بألا يقيم معه في غرفته طالب آخر إلا أنه يُفاجىء بوجود «تشارلز هيرمان»، الممثل «بول بيتاني» معه، ورغم دراسة الأخير للأدب البعيد عن الرياضيات، إلا أنه يصبح أفضل أصدقائه، بخاصة مع غرابة أطوار «ناش»، ورفضه الحياة الاجتماعية، وعدائيتة أغلب أقرانه في الكلية

 ويتحدى أستاذ «ناش» قدراته، ويُلمح إلى أنه فاشل، لا يعترف بالمهنج، ولا يحضر المحاضرات، ويعكف على أفكار رياضية مشوشة.

إلا ان «ناش» يستجمع فكره، ويأتي بجديد في عالم الرياضيات مكرساً لنظرية التوازن (دينامكية التحكم) التي يلخصها الفيلم، في إمكانية إزاحة الخصوم عن المشهد التنافسي في الاقتصاد وبالتالي الحياة دون القضاء عليهم، وبناء عليه يقبل «ناش» عرضاً مرموقاً في اكاديمية «ماساتشوستس للتكنولوجيا»، مع أصدقائه المميزين علمياً، المحايدين في تنافسيتهم له «سول» و«بيندر».

وفي المنتصف يستدعيه «البنتاغون» «ناش»، في وقائع يتركها الفيلم مجهلة، دون تأكيد أو نفي، لكشف شفرة للأعداء تستطيع إنهاء الحرب العالمية الثانية ، وقتل عشرات الآلاف من الخصوم في ضربة واحدة، إلا أن المخابرات الأمريكية تتمادى في تتبعه لفك شفرة قنبلة حديثة، ويستحيل الأمر إلى صراع مع المخابرات الروسية، وإطلاق للنار على «ناش»، ووقوف زوجته مذهولة من أفعاله الغريبة، وتتبعه لقصاصات أوراق المجلات، وحديثه مع الذين لا تراهم على الإطلاق.

في ثلث الفيلم الأخير يتضح للمشاهد تماماً مرض «ناش» العقلي، وتخيله ما لا يُرى، بداية من معايشته صديقاً في السكن الجامعي غير موجود أساساً في الواقع، فالغرفة كانت فردية، ولا وجود لضابط المخابرات، وطفلة، والثلاثة يطاردونه ، في الخيال، طوال الوقت.

معادل موضوعي جيد

ورغم حيرة المشاهد فيما يراه، فـ«ناش» عالم مخلص، وعالم المخابرات قد يستدعي التلاعب بالعميل، ولو كان عالماً مرموقاً وإدخاله المصحة كما يصور الفيلم حتى بعد مرور نصف وقته، إلا أن المُتابع الجيد يدرك أن هدف صنّاع الفيلم هو جذب التعاطف مع البطل، الذي يعاني من الهلاوس لأنه يريد خدمة وطنه أكثر، في رأي الفيلم، فيخترع مواقف وبطولات لا وجود لها، ويكاد يقتل زوجته الممثلة  «إليشيا لارد» «جينيفر كونلي».

إلا أن هذا لا ينفي أن جملة الفيلم المُفتاحية الحاملة للحل فيه جاءت أكثر من رائعة، تمحو خداع المخرج للمشاهد، وتكسب الفيلم نكهة إنسانية رائعة، حينما تقول «إليشيا»، الحبيبة والزوجة الوفية والتلميذة لزوجها عقب تحذير الطبيب النفسي لها من إمكانية قتله لها:

ـ المشكلة في عقلي وعقلك حينما يَريان ويعتقدان فيما ينكره الآخرون، هنا يجب أن نحتكم إلى القلب!

إنها لغة عبرت عنها الزوجة من قبل لما سألها الزوج العالم، المفتقد لآليات طلب الزواج والتأكد من مناسبة الزوجة، عن قابليتها للحياة معه فقالت:

ـ كم قدرة تسيير النجوم والأجرام في الكون.. أنت تقول إنها غير متناهية.. مع أنك لم تبصرها من الأساس.. كذلك الحب يهدي بوصلة قلوبنا، بقدرة غير محدودة، مع أننا لا نراه.

وبفضل محبة الزوجة الواعية العالمة بعبقرية زوجها يقف على قدميّه من جديد، ويطرد عنه المُطاردين له ممن صنعتهم هلاوسه، ويكتشف أن زملائه في الكلية لم يكونوا حاقدين عليه، ويتغلب على وساوسه ويقف على منصة تكريم «نوبل» مهدياً الفوز لزوجته التي آمنت به حينما جحد العالم كله فضله.

سلبيات وإيجابيات

 عاني صُنّاع الفيلم مع كيفية  تصوير الهلاوس السمعية التي كانت تتأتى لـ «ناش»، فحولوها إلى بصرية واخترعوا لها أشخاصاً لا يدري «ناش» عنهم شيئاً، وهو ما أكسب الفيلم نكهة خاصة، ولكنه أفقده شيئاً من مصداقيته، وكان بإمكان صناعه البحث في جذور طفولته وصباه للوصول إلى سبب مساعد للهلاوس من البيئة أو حتى الوراثة، وهو ما ابتعد الفيلم عنه في سقطة فنية تُحسبُ عليه، إلا أنه في المقابل نجح بشدة في الاعتراف بفضل الحب في تغيير النفوس ودفعها إلى القمة، بخاصة حينما تجىء هذه العلاقة العاطفية عبر الزواج في انتصار للقيم والأخلاق قليل ونادر بالأفلام الغربية، وبالتالي تناسى المشاهد مدى مشاركة «ناش» في الحرب العالمية الثانية، او حتى مجرد تمنيه ذلك، وما يخص «نوبل» الجائزة القادمة من أرباح صناعة «ألفريد نوبل» للقنابل التي تُفني البشر، وكان هدف بطل الفيلم الرئيسي من هلاوسه كشف شفرة قنبلة تساهم في مزيد من الدمار.

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

عقل جميل خداع فيلم أمريكي