«ستراتفور»: روسيا لا تزال على خطا الاتحاد السوفييتي بعد 25 عاما من نهاية الحرب الباردة

الخميس 29 ديسمبر 2016 07:12 ص

قال الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» في أحد المرات أنّ أي شخص «لا يفتقد الاتحاد السوفييتي لا قلب له»، في حين أنّ أي شخص «يرغب في عودته لا عقل له». ولما يقارب الـ 70 عامًا، جمعت الأيدلوجية الشيوعية المؤسسة للاتحاد السوفييتي الشعوب المتباينة للجمهوريات الاشتراكية المكونة لها معًا. وهذه الأيدلوجية المتناقضة مثلها مثل مبادئ الرأسمالية الأمريكية، قد مهّدت من وجهة النظر العالمية للحرب التي استمرت لعقود والتي شنّها كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتّحدة على بعضهما البعض خلال النصف الأخير من القرن العشرين.

ولم يشبه صراع الحرب الباردة أي صراع آخر في التاريخ، وكانت معركة غير مباشرة بين القوتين العظميين والتي تورّط فيها بقية العالم واستمرت لما يقارب النصف قرن. وفي 26 ديسمبر/ كانون الأول عام 1991، أعلنت الولايات المتّحدة انتصارها أخيرًا، عندما نكّس الكرملين العلم الأحمر الرمزي الذي حلّق عاليًا فوق الاتحاد السوفييتي طويلًا. وبعد 25 عامًا، تدعونا الذكرى السنوية الـ 25 لانهيار الاتحاد السوفييتي للتفكير في الحرب الباردة، تاريخها وإرثها.

وضع حجر الأساس

لم تكد تنتهي الحرب العالمية الثانية حتّى بدأت الاستعدادات للحرب الباردة. وقبل أن يجف حتّى الحبر الذي وقّعت به العديد من معاهدات السلام التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، بدأت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بتحديد المناطق الموالية والمعارضة في أوروبا. وسيطر الاتحاد السوفييتي على ما يسمى دول الكتلة الشرقية. وصرّح الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت «هاري ترومان» أنّ «على الولايات المتّحدة وحلفائها تعليمهم كيفية التصرّف».

عملت الولايات المتّحدة وحلفاؤها في أوروبا سريعًا على وضع الاتحاد السوفييتي على أجندة الأعمال، وشكّلت استراتيجية الاحتواء، والتي تطورّت في وقت ما من مبدأ ترومان عام 1947 إلى تحالف شمال الأطلسي العسكري (الناتو). وقبل حتّى أن ترسم كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي رسميًا خطهم الفاصل بين شرق وغرب أوروبا، أعلن رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل أنّ «الستار الحديدي قد أسدل على كل القارة».

وقضت الدولتان عقودًا في الحرب. ولكنهما أدارتا الحرب دون أن تتقاتلا بشكل مباشر. بدلًا من ذلك، لُعب الصراع على شكل حروب بالوكالة في كل القارات تقريبًا، من خلال الحروب التجارية، ومن خلال المخاوف الدائمة لدى المواطنين والقادة في كل بلد خوفًا من اندلاع حرب نووية، وبالطبع من خلال الحرب الأيديولوجية.

انهيار الاتحاد السوفييتي بعد 25 عامًا

بني النظام السوفييتي على مفهوم المساواة الاشتراكي، قانونيًا واجتماعيًا وماليًا لكل الناس (بدءًا من العمال)، وهي خطوة استراتيجية من مؤسسي الاتحاد أكثر منها قناعة لديهم. وقاد الحزب الشيوعي هذا النظام وتولّى رئاسته، وتولّى بذلك الإشراف المباشر على الأجهزة السياسية والاقتصادية والصناعية والصحفية والاجتماعية للاتحاد السوفييتي.

وفي مبادئه ومهامه، كان النظام السوفييتي معارضًا تمامًا للمبادئ التي تتبناها الولايات المتّحدة من حق تقرير المصير والديمقراطية والرأسمالية. وبالرغم من ذلك، فلم يحقق أيًا من النظامين ما تخيّله مؤسسوه في واشنطن وموسكو. علاوة على ذلك، أدّت الحرب إلى تحالف كلًا من القوتين مع دول تناقض مبادئها تمامًا. ورأت الولايات المتّحدة السوفيتيين كملحدين ظالمين يقمعون الحرية والأمل، ويحرمون المواطن من الحق في البحث عن حياة أفضل. وفي المقابل، اعتبر الاتحاد السوفييتي الولايات المتّحدة قوة عظمى إمبريالية تحاول أن تصبح قوّة مهيمنة على العالم. وأصبح نضال الحرب الباردة مسابقة أخلاقية لتحديد أي الفكرتين كانت صحيحة.

بداية النهاية

مع الاقتراب من نهاية السبعينات، وبعد صراعات بالوكالة وتهديدات بالحرب النووية، بدا لواشنطن أنّ موسكو سيكون لها الغلبة في النهاية. رغم ذلك، فقد فشلت الولايات المتّحدة في إدراك كم أنّ الاتحاد السوفييتي الذي يبدو وكأنّه لا يمكن إيقافه، يعاني كونه كيانًا ثقيلًا وغير عملي. وسواء من حكموا الإمبراطورية الروسية في الماضي أو روسيا الاتحادية اليوم، فقد واجهت موسكو نفس المعوقات والثغرات الجغرافية عبر تاريخها الطويل. ومع اقتصاد يعتمد على النفط (والحبوب في بعض الأحيان)، والتنوع السكاني الكبير، والمنافسين حول حدودها، نجد أنّ الاتحاد السوفييتي لم يسقطه الغرب، لكنّه قد انهار تحت وزنه الثقيل.

وكان الاتحاد السوفييتي قد أظهر بالفعل علامات على التعثّر. وحين تولّى «نيكيتا خروتشوف» رئاسة وزراء الاتحاد السوفييتي بعد سنوات قليلة من وفاة «جوزيف ستالين»، الذي تزعم الاتحاد لفترة طويلة، أعلن عن «ذوبان الجليد» في كل أنحاء البلاد. وشرع خروتشوف في تخفيف الرقابة بعض الشيء، وتحرير السياسات السياسية والاقتصادية، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، مع شجب الأساليب الوحشية لـ«ستالين». وقد أدرك هو والنخبة في الحزب أنّ الاتحاد السوفييتي سيتمزّق إذا لم يتطور. وفي العقود التي تلت الهزّة التي أحدثها «خروتشوف»، دخلت البلاد في دوامة من برامج الاندماج والتحرر في ظل سلسلة من الزعماء.

أنين بلا صوت

بحلول الثمانينات، عانى الاتحاد السوفييتي من عاصفة من الانتقادات السياسية. ودخل النظام السياسي السوفييتي مرحلة الضمور. وتوفّى ثلاثة من الزعماء كبار السن في مناصبهم، وهم «ليونيد بريجنيف» و«يوري أندروبوف» و«قسطنطين تشيرنينكو»، في حين كان الاتحاد السوفييتي يخوض حربًا دموية ومكلفة في أفغانستان. وكانت النقابات العمالية المستقلة تنتشر وتكتسب زخمًا سياسيًا في الكتلة الشرقية. وفي الوقت نفسه، فإنّ أسعار النفط، التي تمثّل أكثر من نصف عائدات الاقتصاد في البلاد، قد انخفضت بشدّة، الأمر الذي أغرق الاقتصاد السوفييتي في الخراب.

وكان الاتحاد السوفييتي قد بدأ يئن تحت وطأة مشاكله الخاصة، الأمر الذي دفع الولايات المتّحدة لتسريع نهجها ضد السوفييت. ودخلت واشنطن سباقًا للتسلح في بداية الثمانينات مع قرارها باتخاذ إجراء عسكري ضد الاتحاد السوفييتي. وبين عامي 1980 و1989، ضاعفت الولايات المتحدة تقريبًا إنفاقها على التسليح، وسلّحت قوات المجاهدين ضد السوفييت في أفغانستان، وأظهرت قدراتها العسكرية من خلال إطلاق مبادرة الدفاع الاستراتيجي، أو «حرب النجوم». ولم يسعف السوفييت محاولتهم مواكبة الأمر، لكنّ تلك المحاولات قد فاقمت الضغط على بلادهم.

وحاول «ميخائيل غورباتشوف» منع انهيار الاتحاد السوفييتي عندما جاء إلى السلطة عام 1985، بتعيين جيل جديد من الشباب كقادة في الكرملين وإطلاق سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية الليبرالية. وسمح «غورباتشوف» لدول الكتلة الشرقية بإنشاء نظم سياسية مستقلة وأبرم اتفاقًا للحد من التسلح مع الولايات المتحدة. لكنّ تلك التدابير لم تكن كافية لإنقاذ الاتحاد السوفييتي، وكانت بذور التفكك قد زرعت بالفعل. وبعد أيامٍ قليلة من الذكرى السنوية الخجولة رقم 69 للاتحاد السوفييتي، تمّ إعلان حلّه، ولم يكن للأمر دويًا عاليًا، بل اكتفى الكرملين، في هدوء، بتنكيس الأعلام الحمراء، التي ظلّت رمزًا للاتحاد السوفييتي طوال 7 عقود.

في عزاء الاتحاد السوفييتي

تمّت الإشادة بانهيار الاتحاد السوفييتي في الغرب كانتصار للولايات المتّحدة وحلفائها، الأمر الذي أثبت أنّ النظام الأمريكي وأيدولوجيته الحاكمة كان متفوقًا معنويًا وأخلاقيًا وفنيًا. ولعل أوضح مثال على وجهة النظر الغربية تجاه نهاية الحرب الباردة هي حفلة الحرية في برلين، والتي تبعت سقوط جدار برلين بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية عام 1989، والتي بثّت على التلفاز في أكثر من 20 دولة حول العالم.

وبدون تعرض الولايات المتّحدة لأزمات مشابهة، أصبحت هي القوّة المهيمنة على العالم، الأمر الذي تخوّف منه السوفييت، وانتشت النماذج المؤسسية والاقتصادية والديمقراطية الغربية في أجزاء عديدة عبر العالم. لكنّ انهيار الاتحاد السوفييتي، حقّق بعض النتائج غير المتوقّعة أيضًا. فقد تسببت الحروب بالوكالة التي اندلعت خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، في بقاء بعض الصراعات على المحك. وفي سنوات الضعف الأخيرة للاتحاد السوفييتي، وخلال السنوات التي أعقبت انهياره، اندلعت الحروب في أنحاء البلقان وأفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا ودول الاتحاد السوفييتي سابقًا. وشهدت العديد من هذه الصراعات هيمنة الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، سهّلت نهاية الحرب الباردة صعود قوى إقليمية مثل الصين وإيران والسعودية وألمانيا وفرنسا، وبعضها تختلف مع نظرة الولايات المتّحدة للعالم. وتشكّلت تحالفات إقليمية بديلة، خلقت المنافسة أمام الولايات المتّحدة.

وعلى الرغم من أنّ انهيار الاتحاد السوفييتي قد أظهر أنّ موسكو لن يمكنها تحدّي واشنطن مرّة أخرى، استعادت روسيا مكانتها في نهاية المطاف. والآن، تتبع روسيا الاتحادية نفس الاستراتيجية التي اتبعها حكام الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفييتي في السابق، على الرغم من فشلها. وعلى غرار ما فعلت في العصور السابقة، لجأت موسكو مرة أخرى إلى الأساليب الاستبدادية والتوسعية للتغلب على الهشاشة التي ورثتها، وهذه المرة تحت غطاء ديمقراطي واقتصاد قائم على السوق (وإن كان تحت نفوذ الدولة). ويشبه هذا الابتعاث بشكل ما صعود الاتحاد السوفييتي، ولكن بعد أن تعلّم من أخطائه. ومع ذلك، فقد أثبتت عودة روسيا أنّه بعد 25 عامًا من انتهاء الحرب الباردة، فقد أصبح وجود نظام عالمي مستقر، بعيد المنال أكثر من أي وقتٍ مضى.

المصدر | ستراتفور

  كلمات مفتاحية

روسيا الاتحاد السوفيتي النظام العالمي الولايات المتحدة