أكثر قلقا وأقل سعادة.. كيف جعلتنا الليبرالية الجديدة أكثر انعزالا؟

الاثنين 2 يناير 2017 06:01 ص

هل توجد إدانة لأي نظام تفوق تفشي المرض العقلي فيه؟ أوبئة القلق والتوتر والاكتئاب، الرهاب الاجتماعي واضطرابات الأكل، إيذاء الذات والوَحدة، تضرب الناس في كل أنحاء العالم، والأرقام الكارثية لصحة الأطفال العقلية في إنجلترا تعكس أزمة عالمية.

هذا المقال ترجمة بتصرف بسيط لمقال رأي للكاتب «جورج مونبيوت»، في صحيفة «الغارديان» حول هذا الأمر.

كيف قالوا لنا «قف وحدك وامشِ وحدك»؟

هناك الكثير من الأسباب الثانوية لهذا الاضطراب، لكن، يبدو لي أن السبب الرئيسي وراء ذلك في كل مكان هو نفسه، فالبشر، الثدييات فائقة الاجتماعية، والذين سُخّر تركيب أدمغتهم للاستجابة إلى الناس الآخرين، تم تمزيقهم عن بعضهم. صحيح أن التغير الاقتصادي والتكنولوجي يلعب دورا كبيرا، لكن الأيديولوجيا أيضاً تفعل ذلك.

مع إن سلامتنا ترتبط بشكل وثيق بحياة الآخرين، إلا إنهم يقولون لنا في كل مكان أننا سوف نزدهر من خلال التفكير في المصلحة الذاتية، والفردانية المتطرفة.

في بريطانيا، يأتي رجال عاشوا حياتهم كلها في الزوايا الأربعة -المدرسة، والكلية، والحانة، والبرلمان- ليرشدونا كي نقف على قدمينا الاثنتين وحدنا. النظام التعليمي يصبح أكثر وحشية وتنافسية هذه السنة، التوظيف هو حرب تقترب من الموت مع عدد كبير من الناس اليائسين الذين يطاردون وظائف أقل من أي وقت مضى، الزعماء الحديثون للفقراء يلقون بلائمة الأوضاع الاقتصادية على الأفراد، المنافسات التي لا تنتهي على شاشة التلفاز تغذي الطموحات المستحيلة، بينما تنكمش الفرص الحقيقية.

كيف أوقعتنا وسائل التواصل في «ديستوبيا» يلتهم فيها الناس أنفسهم؟

الاستهلاكية تملأ الفراغ الاجتماعي، لكن، بعيداً عن علاج مرض العزلة، فهي تعمق المقارنة الاجتماعية للدرجة التي تستهلك فيها كل شئ عداها، ونبدأ في التهام أنفسنا، وسائل التواصل الاجتماعية «السوشيال ميديا» تجمعنا في مكان واحد، لكنها تبعدنا عن بعضنا، موقعة إيانا في تقييم أرضيتنا الاجتماعية، ورؤية كيف أن الآخرين لديهم أصدقاء ومتابعين أكثر مما لدينا.

الكاتبة «ريانون لوسي كوزليت»، كانت قد علقت على تعديل الفتيات والشابات الصغيرات للصور التي يرسلنها على وسائل التواصل، كي يجعلن أنفسهن أنعم وأنحف، بعض الهواتف تقوم بهذا لوحدها دون سؤال، باستخدام إعدادات «الجمال» الخاصة بها، تستطيع الآن أن تكون بذاتك مروجا للنحافة. مرحباً بك في المدينة الفاسدة «الديستوبيا» حيث يحارب الجميع ضد أنفسهم.

هل هناك أي عجب في أن تغرق نساء هذه العوالم الداخلية الوحيدة، التي تستبدل فيها الأشياء الأصلية عبر النسخ المنقحة، في الاضطرابات العقلية؟ هناك دراسة حالية في إنجلترا أشارت إلى أن امرأة من كل أربعة نساء بين سن الـ16 والـ24 قد عرضت نفسها لأذى الذات، وواحدة من كل ثمانية تعاني حالياً من كرب ما بعد الصدمة، القلق والاكتئاب والرهاب واضطرابات الوسواس القهري تؤثر على 26% من النساء في هذه المجموعة العمرية، هذا يبدو مثل أزمة صحية عامة.

الألم الاجتماعي والجسدي .. معابر مشتركة

التمزق الاجتماعي لا يعالج بمثل جدية الأقدام المكسورة، وهذا لأننا لا نستطيع رؤيته، لكن علماء الأعصاب يستطيعون ذلك، وهناك سلسلة من الأوراق البحثية الرائعة التي تشير إلى كون الألم الاجتماعي والجسدي يتم معالجته من قبل الدوائر العصبية نفسها، وهذا يفسر وصفنا لتأثير انكسار الروابط الاجتماعية علينا، والألم النفسي، باستخدام الكلمات الدالة على الألم والجرح المادي، وهو شئ تشترك فيها كثير من اللغات.

التواصل الاجتماعي يقلل الألم الجسدي، في كل من البشر وغيرهم من الثدييات الاجتماعية، ولهذا نحتضن أطفالنا إن جرحوا أنفسهم، لأن العاطفة مسكن قوي. الأفيونات تخفف كلاً من من العذاب الجسدي ومحنة الانفصال، ولعل هذا ما يفسر الارتباط بين العزلة الاجتماعية والإدمان على المخدرات.

الألم أم العزلة؟

أظهر ملخص تجارب نشر في دورية «Physiology &Behaviour» الشهر الماضي، أن الثدييات الاجتماعية إذا ما خيّرت بين الألم الجسدي أو العزلة، فإنها ستختار الألم الجسدي. ففي التجربة، حرمت قرود الكبوشين من الطعام والتواصل الاجتماعي لمدة 22 ساعة، ووجدوا أنها انضمت إلى رفاقها قبل أن تأكل، كما وجدت بعض الدراسات أن الأطفال الذين يعانون من الإهمال العاطفي، يعانون من عواقب أسوأ في الصحة النفسية عن الأطفال الذين عانوا من كلٍ من الإهمال العاطفي والإيذاء الجسدي.

إيذاء النفس كثيراً ما يستخدم لتخفيف الشعور بالضيق، وهو مؤشر أيضاً على أن الألم الجسدي ليس بمثل سوء الألم العاطفي، وبما إن منظومة السجن تدرك ذلك جيدا، فإن أحد أكثر أساليب التعذيب فعالية هو الحبس الانفرادي.

العزلة.. تنظر في مرآة الموت

معدل النجاة بين الحيوانات الثديية الاجتماعية يتحسن بشكل كبير عندما تبقى الروابط مع بعضها قوية، بينما الحيوانات المعزولة أو المهمشة هي الأكثر تعرضا للافتراس، أو الموت جوعا، ومثلما يحمينا الألم الجسدي من الإصابة الجسدية، فإن الألم العاطفي، يفترض أن يحمينا من الإصابة الاجتماعية، فهو يقودنا لإعادة التواصل مع الآخرين، لكن معظم الناس يجدون هذا الأمر شبه مستحيل.

ليس من المستغرب أن ترتبط العزلة الاجتماعية بقوة مع الاكتئاب والانتحار، القلق والأرق، بالإضافة إلى الخوف والشعور بالتهديد، الشئ الأكثر إثارة للدهشة هو اكتشاف مدى الأمراض الجسدية التي يمكن أن تسببها أو تفاقمها، مثل الخرف وارتفاع ضغط الدم، أمراض القلب والجلطة الدماغية، وتدني مقاومة الفيروسات، حتى إن الحوادث أكثر شيوعا لدى الناس الذين يعانون الوحدة المزمنة.

الوحدة لديها أثر على الصحة الجسدية للإنسان يضاهي تدخين 15 سيجارة في اليوم، ويبدو أنها ترفع خطر الموت المبكر بنسبة 26%، هذا يعود بشكل جزئي لأنها تزيد إنتاج هرمون التوتر «الكورتيزول»، الذي يقمع النظام المناعي في الجسم.

العزلة تقلل السيطرة على الانفعالات، ما يؤدي إلى السمنة، كما وجدت دراسات تمت على كل من البشر والحيوانات. وبما إن الأشخاص الموجودين في أسفل السلم الاجتماعي والاقتصادي، هم الأكثر عرضة للمعاناة من الشعور بالوحدة، فهل يوفر هذا أحد التفسيرات لكونهم الأكثر سمنة كذلك؟

أسئلة ما بعد الإدانة

لماذا علينا أن ننخرط إذن في هذا التفكك الاجتماعي الأكّال والمستهلك للنفس، إذا كان كل ما ينتجه هو هذا الألم غير المحتمل؟ ألا يجب على هذا السؤال أن يحرق لسان كل شخص؟

هناك بعض الجمعيات الخيرية الرائعة تقوم بما تستطيعه لمحاربة هذا المد، بعضها أعمل فيه كجزء من مشروع «الوحدة» الخاص بي، لكن، مقابل كل شخص يصلون إليه، ينجرف عديد من الأشخاص الآخرين بعيداً.

هذا لا يحتاج رد فعل سياسي، إنه يحتاج شيئاً ما أكبر: إعادة تقييم النظرة إلى العالم بكاملها، فمن بين كل الخيالات التي يسوقها البشر، فكرة أننا «نستطيع أن نعبر لوحدنا» هي الأكثر عبثية، وربما الأكثر خطورة.وإنما، نقف معاً، ونسقط منفردين.

المصدر | الغارديان

  كلمات مفتاحية

الليبرالية الجديدة الوحدة القلق