«فورين أفيرز»: السياق الجيوسياسي لاغتيال السفير الروسي في أنقرة

السبت 7 يناير 2017 08:01 ص

في 19 ديسمبر/كانون الأول، اغتال «مولود ميرت ألتينتاش»، وهو ضابط شرطة تركي، «أندريه كارلوف»، سفير روسيا لدى تركيا. ومن المفترض أن ذلك جاء عقابا على التفجيرات الروسية في شرق حلب، كما أنه كان الأحدث في سلسلة الأعمال الإرهابية في تركيا والتي تخدم حث أنقرة إلى العودة إلى الوراء في اتجاه الغرب. بعد أقل من أسبوعين من الاغتيال، قام مسلح يعتقد بانتمائه إلى الدولة الإسلامية في ساعة مبكرة من 1 يناير/كانون الثاني بقتل 39 شخصا على الأقل في ملهى ليلي بإسطنبول. وإذا استمرت هذه الهجمات، فمن المرجح جدا، أنها يمكن أن تقوض قبضة «أردوغان» على السلطة، فهو يواجه موجة من الإرهاب حتى لو اختلف الجناة.

وفي هذه المرحلة، فإنه من المستحيل معرفة نية «ألتينتاش بدقة»، سواء كان «ذئبا منفردا» أو كان موجها من قبل الآخرين، ولكن الأنماط التاريخية توفر بعض القرائن. أولا، شهدت تركيا سلسلة طويلة من الاغتيالات رفيعة المستوى التي كان يقوم بها الجناح اليميني في البلاد، والذي يتكون من الإسلاميين السنة والقوميين الأتراك، الذين كانوا دائمي الانحياز للسياسة التركية الملتزمة تجاه الانحياز إلى الغرب.

التاريخ السياسي للاغتيالات في تركيا

جاءت الموجة الأولى في الستينيات والسبعينيات، عندما كان اليسار في تركيا صاعدا. آنذاك بدا الأمر وكأن البلاد، وهي عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي منذ عام 1952، يمكن أن تدخل في مدار الاتحاد السوفيتي. وقد وصلت الاغتيالات والعنف ذروتها خلال أواخر السبعينيات، حيث فقد أكثر من خمسة آلاف شخص حياتهم. كانت الأهداف تشتمل على المثقفين اليساريين والطلبة والنقابيين، والعلويين. وفي وقت لاحق، وفي بداية الألفية، دعت فصائل داخل الجيش التركي -خلافا لدعاة التحالف القوي مع حلف شمال الأطلسي- لإعادة توجيه العلاقات بعيدا عن الغرب وتطوير العلاقات الأمنية مع روسيا والصين. وتبع ذلك سلسلة من جرائم القتل الدراماتيكية للمسيحيين.

ومع صعود حزب العدالة والتنمية للحكم بدأت تركيا تضع نفسها مرة أخرى على مسار الغرب. على الرغم من أن حزب العدالة والتنمية كانت إسلاميا معتدلا، فقد أنشأ علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الرئيسي لتركيا. كما أن ضباط الجيش الذين دافعوا عن التوجه الأوراسي حوكموا وسجنوا، بتهمة التخطيط للانقلاب.

ولكن الانحراف السلطوي لنظام حزب العدالة والتنمية منذ عام 2012 قد وتر العلاقات التركية الغربية. في بعض النواحي، مالت تركيا نحو الشرق وأصبحت أقرب إلى روسيا، التي كانت هي نفسها في خلاف متزايد مع الغرب. وجاء ذلك بعد اشتباك البلدين في المعركة على سوريا، مع دعم أنقرة للمعارضين الإسلاميين وعزم روسيا على الحفاظ على حليفها الرئيس السوري «بشار الأسد»، في السلطة.

بعد ذلك تخلت تركيا تدريجيا عن الهدف الذي يبدو غير قابل للتحقيق وهو الإطاحة بـ«الأسد». في المقابل، وصلت إلى الانفراج مع روسيا على أمل بوجود بعض التأثير على التطورات المستقبلية في سوريا، وقبل كل شيء منع الأكراد السوريين من إقامة حكم ذاتي على طول الحدود التركية. وقد تم تخفيف التوترات بين البلدين (التي وصلت إلى مستويات صعبة بعد إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية فوق سوريا في أواخر العام الماضي) مع التباعد المتنامي بين أنقرة و الولايات المتحدة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» خلال فصل الصيف.

و لم يخف «أردوغان» خيبة أمله من استجابة الولايات المتحدة لمحاولة الإطاحة به. وقد أعرب عن امتنانه من الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» الذي سارع إلى التعبير عن الدعم لـ«أردوغان» على عكس الرئيس الأمريكي «باراك أوباما». وزعمت بعض وسائل الإعلام الموالية للحكومة في تركيا أن روسيا ساعدت على إفشال الانقلاب.

ويستاء النظام التركي من رفض الولايات المتحدة تسليم رجل الدين «فتح الله غولن»، الذي تحمله أنقرة المسؤولية عن محاولة الانقلاب، وتعتبر ذلك دليلا على تواطؤ الولايات المتحدة. وعلاوة على ذلك، فقد استمرت المساعدات الأمريكية للمتمردين الأكراد في سوريا، الذين هم حلفاء مقربون من حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي يشن تمردا مسلحا ضد أنقرة منذ عام 1984، وينظر إلى ذلك أيضا كتعبير آخر عن العداء الأمريكي. وفقا لتقارير في وسائل الإعلام التركية، فإن عناصر داخل مؤسسة الدولة شجعت «أردوغان» على قطع العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا والتوجه بشكل كامل إلى روسيا.

لقد عزز الانقلاب الفاشل يد الفصيل العسكري الذي يدعو إلى مثل هذا التوجه. ما هو واضح هو أن عمليات التطهير في أعقاب محاولة الانقلاب تستنزف صفوف الضباط الأكثر تأييدا لحلف شمال الأطلسي. لا تزال تركيا غير موحدة، بما في ذلك بعض الأجهزة الأمنية، التي لا تزال ملتزمة بدعم المعارضين الإسلاميين في هذه المعركة وتتماشى مع التوجه التركي الاستراتيجي التقليدي المعادي لروسيا بشكل عام.

بين روسيا والغرب

لقد كان هذا ثابتا من الثوابت في السياسة الخارجية والأمن التركي منذ 1940 حيث كان الاعتقاد ساريا بأن موسكو هي العدو التاريخي لتركيا وأنه يجب الالتزام بالعلاقات الغربية في المقام الأول. البعض في هذا المعسكر، مثل «ألتنتاش»، قد يرى في العنف أمله الوحيد لوضع تركيا مرة أخرى على الطريق الصحيح. وهناك سابقة تاريخية لذلك: في الأجهزة الأمنية التركية، أو في أي عناصر ما يسمى بـ«الدولة العميقة»، هناك تاريخ من الاستفادة من الخزان الأيديولوجي اليميني من أجل ضمان ألا تحيد تركيا عن مسارها الاستراتيجي التقليدي وأن تحافظ على اليقظة ضد عدوها التاريخي، روسيا.

على سبيل المثال، في عام 1979، قام المتشدد اليميني «محمد علي أقجا» باغتيال «عبدى أبكجى»، رئيس تحرير صحيفة الأوسط الرائدة في تركيا. كان «أبكجى» من المؤيدين لـ«بولنت أجاويد»، زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي شغل منصب رئيس الوزراء ثلاث مرات بين عامي 1973 و 1979 والذي كان ينظر إليه من قبل دوائر رجال الأعمال والجيش بريبة كبيرة. ولم تقد تركيا حكومة يسارية من قبل، وكان كثيرون في مؤسسات الدولة التركية وفي دوائر الأعمال يعتقدون أن «أجاويد» كان على وشك قيادة البلاد بعيدا عن التحالف الغربي.«يسار الوسط هو الطريق إلى موسكو»، كان هذا هو الشعار الشهير بين الكثيرين في اليمين في تلك الأيام.

بعد الاغتيال، هرب «أقجا» في وقت لاحق من السجن وغادر تركيا بمساعدة واضحة من قبل الشرطة. وحاول في وقت لاحق قتل البابا «يوحنا بولس الثاني» في روما في عام 1981 في مؤامرة لم يتم فك لغزها. وقد زعم أنه، تم تجنيده بعد أن غادر تركيا، مع الخدمات السرية للكتلة الشرقية، التي خططت لقتل البابا البولندي ردا على تشجيعه لحركة الحرية في وطنه بولندا.

في النهاية، مثل اغتيال «أبكجى» معلما رئيسيا في الطريق إلى الانقلاب العسكري عام 1980. كان الاغتيال الأكثر صدمة في تلك السنوات. حيث قامت فرق الموت اليمينية بصلاتها مع «الدولة العميقة» بقتل مثقفين يساريين ووسطيين. ونجا «أجاويد» نفسه من محاولة اغتيال. وقد تم سحق اليسار أخيرا عندما استولى الجيش على السلطة في عام 1980. ورحب مسؤولون أمريكيون بما سموه انقلاب «فتياننا»، ولبعض الوقت، بدت تركيا تميل إلى الخلف نحو الغرب.

ومع ذلك، وبحلول نهاية الحرب الباردة، اكتسب الفصيل المعادي للغرب أرضية داخل الجيش التركي مرة أخرى. وقد تابع هذا الفصيل السياسات الأميركية في الشرق الأوسط بعين الريبة، وتحديدا نوايا الولايات المتحدة لإقامة دولة كردية مستقلة عن الأراضي التركية. اعترض الكثيرون في هذا الفصيل على السماح للولايات المتحدة باستخدام الأراضي التركية في غزو العراق عام 2003، وهو الأمر الذي دعمه «أردوغان». وزعم هؤلاء الضباط «الأوراسيون» أن تركيا بحاجة إلى إعادة توجيه علاقاتها نحو روسيا والصين لضمان أمن وسلامة مواطنيها.

لكن الأوراسيون اشتبكوا مع أولويات حكومة حزب العدالة والتنمية ومع كبار الضباط، الذين بقوا في معظمهم مؤيدين للحلف الأطلسي. هناك إرهابي يميني آخر، وهو «أوجون ساماست»، الذي اغتال في عام 2007 الصحفي الأرمني التركي «هرانت دينك». وجاء اغتيال «دينك» بعد مقتل «أندريا سانتورو» في 2006، وهو كاهن كاثوليكي، تبعه مقتل ثلاثة من المبشرين المسيحيين. في جميع الحالات الثلاث، كان الجناة مراهقين يمينيين. وادعت السلطات أن أعمال العنف كانت من القوميين المعادين للغرب في «الدولة العميقة». وكان هناك قائد كبير يعرف بآرائه الأوراسية، وهو «هورسيت طولون» بالتخطيط للجرائم وتم القبض عليه ثم تمت تبرئته في وقت لاحق بعد سنوات.

ومع ذلك، هناك الآن أدلة دامغة على أن مؤامرة «ساماست» كانت مدبرة في الواقع من قبل عناصر في قوات الأمن التركية، وبدا أن الهدف الحقيقي كان خلق الظروف لجمع المعارضة القومية لنظام حزب العدالة والتنمية. وعززت هذه الحلقة المشاعر الموالية الناتو التي تحتاج إلى تنظيف «الدولة العميقة» وقد ساعدت في إضفاء الشرعية على عدة محاكمات صورية للمتهمين بتدبير الانقلاب ، والذي بدوره أدى لالتزام تركيا المتواصل بالهيكل الأمني الغربي.

وقد وضع الانقلاب الفاشل هذا العام، التقارب مع روسيا والخيار الأوراسي على الطاولة مرة أخرى. بعد يوم من قتل «كارلوف»، وقع وزراء خارجية إيران وروسيا وتركيا إعلانا مشتركا في موسكو أكد الالتزام بإبقاء «نظام الأسد» في السلطة. يعلمنا التاريخ أن مثل هذا التوجه الأوراسي من المرجح أن يؤدي إلى المزيد من ردود الأفعال.

 تاريخيا، أثبتت الكتلة اليمينية الأيديولوجية أنها قوية بشكل كبير وفعال. وقد أثبتت الشبكات اليمينية في الدولة التركية قدرتها على الحشد لحماية الولاء الاستراتيجي للغرب. يعلم «أردوغان» أنه يجب أن يكون حذرا. لكن الصراع على التوجه الجيوسياسي لتركيا يخاطر بتقسيم الشعب المنقسم بالفعل.

المصدر | فورين أفيرز

  كلمات مفتاحية

روسيا تركيا العلاقات الروسية التركية اغتيال السفير الروسي