«فورين بوليسي»: ثورة الفقراء القادمة في مصر

الأحد 2 أبريل 2017 08:04 ص

في وقت سابق من الشهر المنقضي، اندلعت أعمال شغب بسبب الخبز في مصر. وقام آلاف المتظاهرين الغاضبين بإغلاق الطرق حول المخابز التابعة للدولة احتجاجا على قرار الحكومة بتخفيض عدد أرغفة الخبز المدعوم التي يمكن لكل أسرة شراؤها. ووقعت اشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين المحتجين في الأماكن الفقيرة في كل من الإسكندرية وكفر الشيخ والمنيا وأسيوط.

عندما يلتقي الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي» مع «دونالد ترامب» في البيت الأبيض في 3 أبريل/نيسان، فإنه سيصور الاحتجاجات ضده بوصفها جزءا من الماضي وسوف يقدم نظامه العسكري كمعقل للاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، من المؤكد أن الاضطرابات ستعود إلى مصر، وأن الجيش سيكون هو المسؤول عن إطلاقها.

وتعد احتجاجات الخبز أعراض لأزمة بدأت فعليا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عندما وافق صندوق النقد الدولي على قرض بقيمة 12 مليار دولار لنظام «السيسي». وتتطلب اتفاقية القرض من مصر إصلاح عجز ميزانيتها المزمن من خلال تخفيضات كبيرة في الدعم وأشكال أخرى من الإنفاق العام. ويتطلب الاتفاق أيضا خطوات لتشجيع القطاع الخاص لى تعزيز خلق فرص العمل والنمو.

الجيش يعزز مكاسبه التجارية

لكن الجيش المصري استخدم الاتفاق لمعاقبة الطبقات الدنيا في إطار سعيه لتعزيز مكاسبه التجارية. ونفذت المؤسسة العسكرية، التي تسيطر تماما على خطة الإصلاح الاقتصادي، شروط القرض بشكل انتقائي. وفي حين قلل بحماسة الإعانات المقدمة للمدنيين الفقراء، فإن الجيش وسع نطاق سيطرته على العديد من القطاعات الاقتصادية وجني أرباحا هائلة على حساب القطاع الخاص.

وفي الوقت التي يتولى فيه الجيش حكم البلاد، فإنه يدير أيضا إمبراطورية اقتصادية ضخمة. من ناحية، يقوم الجنرالات الذين يرتدون الزي العسكري بإدارة التكتلات الاحتكارية للمؤسسات غير المدققة وغير الخاضعة للضريبة، مثل المزارع التجارية ومطاحن تغليف الأغذية وشركات البناء ومصانع الأدوية ومحطات الوقود ومصائد الأسماك ومصانع الأسمنت والصلب. ومن ناحية أخرى، يشغل الضباط السابقون مناصب حكومية رئيسية مسؤولة عن إدارة الاقتصاد الوطني. كما أنهم استولوا على وظائف بيروقراطية على طول الطريق من الرئيس إلى وزير التموين ورئيس هيئة التنمية الزراعية ووكيل وزارة الإسكان، ومساعد وزير الصحة. وعلاوة على ذلك، فإنهم يتولون مناصب المحافظين ورؤساء المناطق في الأماكن البعيدة التي شهدت احتجاجات الخبز.

فشلت اتفاقية قرض صندوق النقد الدولي في أن تخلخل سيطرة الجيش على الاقتصاد وبيروقراطية الدولة. وبدلا من تنفيذ الاتفاق بإخلاص، فإن الجيش يحمي صلاحياته على حساب الفقراء، ويقوم بتوجيه موارد البلاد المتبقية لضباط الجيش.

وبدأت سلسلة من الأزمات المتوالية في يوليو/تموز الماضي عندما واجهت الأمهات من الطبقة الدنيا نقصا في ألبان الأطفال المدعمة واندلعت الاحتجاجات في العديد من المناطق. وظهرت الأمهات المصريات أمام المنافذ الحكومية أثناء حملهن الرضع. وقام الجيش بحل المشكلة ظاهريا عن طريق استيراد الألبان الناقصة ولكنه قام ببيعها بضعف الثمن. علاوة على ذلك، قدمت وزارة الإنتاج الحربي المزيد من المساعدة من خلال بناء مصنع خاص بها لحليب الأطفال.

وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي قبل أقل من شهر من الموافقة على القرض، استيقظ المصريون على نقص حاد في السكر. ومع عدم قدرة الدولة على تحمل دعم منتج التحلية، فإنه اختفى فجأة من المنافذ المملوكة للدولة مما أدى إلى طوابير طويلة شهدت أحداث عنف من أجل الحصول على كيس أو كيسين من السكر. وبدأت الشرطة القبض على المارة الذين يحملون أكثر من حصة أسرهم القانونية. ومرة أخرى تدخل الجيش لحل المشكلة عبر مصادرة السكر من منافذ البيع الخاصة وبيعه لحسابه.

وبهذه الطريقة، وضع الجيش نفسه في ثوب المنقذ للأزمة وقام بتحطيم منافسيه في القطاع الخاص. وتعهد المحافظ العسكري للإسكندرية بإنهاء أزمة السكر، وإلقاء اللوم على التجار الجشعين. وفي الوقت نفسه باعت شركة السلام التابعة للجيش  3000 طن من السكر بأسعار معقولة في الأحياء الفقيرة من المدينة. وفي نهاية المطاف عاد السكر إلى الظهور في الأسواق بعدما ضاعفت وزارة التموين سعره.

كما استغل النظام العسكري شروط القرض لإصلاح البيروقراطية على طريقته. وقبل عشرة أيام من الموافقة على قرض صندوق النقد الدولي، سن النظام قانونا يهدف إلى خفض عدد الموظفين وخفض مرتبات موظفي الحكومة في البيروقراطية الحكومية المتضخمة. وبعد يومين، أصدرت الدولة قرارا حاسما آخر بخفض قيمة الجنيه المصري، مما يعني أن المال الذي يكسبه هؤلاء الموظفون فقد نصف قيمة الشرائية.

العسكريون مستثنون من الإصلاحات

وعلى الرغم من سعي النظام إلى تقليص البيروقراطية، فإنه عزز قدرته عبر وضع الموالين له في المناصب الرئيسية. واحتفظت أحد مواد الدستور الجديد بقاعدة من عهد «حسني مبارك» وهي الاحتفاظ بسلطة تعيين المسؤولين في المناصب القيادية للرئيس. واستغل «السيسي» هذه الصلاحية بقوة واضعا عددا متزايدا من الضباط السابقين في أعلى الوظائف المدنية في الحكومة والقطاع العام فور تقاعدهم.

وفي الوقت الذي صوت فيه البرلمان المصري على سن قانون الخدمة المدنية، وافق على قانون آخر برفع معاشات العسكريين بنسبة 10%، وهي ليست أول زيادة لضباط الجيش منذ تولي «السيسي» السلطة. وخلال السنوات الثلاث الماضية، أصدر الرئيس المصري ستة قرارات لرفع المعاشات العسكرية بنسبة تجاوزت 35%. وعلاوة على ذلك، دعم البرلمان صندوقا جديدا لتقديم الخدمات الطبية والاجتماعية للقضاة العسكريين. وفي الإسكندرية، قام بعض هؤلاء القضاة بإرسال عشرات من العاملين في حوض بناء السفن التابع للجيش في الإسكندرية إلى السجن العسكري بتهمة التحريض على الإضراب.

وفي يوم تخفيض قيمة الجنيه المصري، قرر النظام العسكري مضاعفة أسعار الوقود تقريبا في خطوة نحو إلغاء دعم الوقود نهائيا. وللمفارقة، فإن وزارة الدفاع تمتلك سلسلة من محطات الغاز المنتشرة في جميع الطرق تقريبا في البلاد.

وفي يناير/كانون الثاني، رفعت الحكومة أسعار الأدوية بنسبة 50 في المائة، مما أدى، بالإضافة إلى تخفيض قيمة العملة، إلى حدوث نقص مأساوي. وبعد القرار، عين وزير الصحة أحد الجنرالات السابقين رئيسا لشركة اللقاحات المملوكة للدولة.

دعت هذه الأزمات المتتالية إلى بذل جهود عاجلة لتخفيف وطأة الفقر. تدخل الجيش عبر مجموعة من مشاريع البناء الضخمة التي تصورها آلة الدعاية الحكومية على أنها مصممة لصالح الطبقات الدنيا والشباب. وتولي المقاولون العسكريون مسؤولية تنفيذ هذه المشاريع الطموحة، في حين أن الشؤون المعنوية للجيش تولت مسؤولية الدعاية للتقدم المحرز.

أحد هذه المشاريع الضخمة هو برنامج المليون وحدة سكنية الذي أطلقه «السيسي» في شهر مايو/أيار الماضي في مناسبة احتفالية. ولم يطرح الرئيس هذا المشروع الكبير للمناقصات العامة الخارجية، ولكنه أسنده إلى الهيئة الهندسي،ة وهي مقاول عسكري ضخم تابع للجيش. ويسمح قانون المناقصات العامة الذي تم تعديله بعد استيلاء الجيش على السلطة عام 2013 ثم مرة ​​أخرى في عام 2016 بإسناد المشاريع الحكومية بشكل مباشر للشركات العسكرية.

وبالمثل، تم تخصيص المشروع الزراعي الذي تبلغ مساحته مليون ونصف مليون فدان لصالح المهندسين العسكريين في القوات المسلحة، وحث «السيسي» على الانتهاء بسرعة من حفر آبار المياه وبناء المنازل والعيادات والمدارس في المناطق المستصلحة.

ولكن على الرغم من الإعلان عن المشروع كمبادرة لدعم فقراء الريف، فإن الواقع على الأرض كان مختلفا تماما، حيث قام جنود الجيش بمصادرة لأراضي الصحراوية للعديد من المزارعين في قنا، وهي محافظة فقيرة في جنوب مصر. واتهم الجيش المزارعين بالتعدي على ممتلكات الدولة وطردهم من أجل ضم أراضيهم إلى المشروع. واستخدم محافظ قنا، وهو جنرال سابق، رافعات ثقيلة لهدم ممتلكات المزارعين على مساحة 100 ألف فدان. ولا يمكن للمالكين المدنيين العاجزين سوى إرسال شكاوى من المحافظ إلى الهيئة العامة للتنمية الزراعية في القاهرة والتي يرأسها جنرال سابق يعد زميلا له.

ما أعلن النظام العسكري عن مشروع تطوير محور قناة السويس، محاولا إحياء الذكريات الوطنية لبناء مشاريع ضخمة مثل السد العالي. ومرة أخرى، يتولى المهندسون العسكريون مسؤولية هذا المشروع، ويجندون العمال للسفر من مختلف المناطق للعمل فيه. رفض «السيسي» الاعتماد على العمال الهنود في المشروع، وطلب من الهيئة الهندسية توفير فرص عمل للمصريين بأجر زهيد. وأظهر مقطع فيديو بثته الهيئة الهندسية عشرات من العمال يخرجون من حافلات وصلت إلى موقع البناء بعد رحلة امتدت لأكثر من ألف ميل من محافظة قنا. وقال جميع من أجريت معهم المقابلات إنهم شرفوا بخدمة هذه القضية الوطنية، ثم وقفوا في خط طويل لتسجيل أسمائهم على طاولة حيث جلس ضابط في الجيش ليسجلهم.

وبعد بضعة أيام عاد 200 من هؤلاء العمال إلى قنا، وأصروا على أن المهندسين العسكريين لم يقدموا أجورا عادلة أو غذاءا مناسبا أو أماكن للنوم في وسط تلك الصحراء.

وعند تقديم طلب للحصول على اتفاقية قرض صندوق النقد الدولي، منح الحكام في مصر أنفسهم إعفاءات هامة.

تخفيض النفقات العامة على السلع الأساسية، على سبيل المثال، لم يمنع الجيش من الإنفاق الفخم على شراء الأسلحة. ومن فرنسا وحدها، عقدت مصر صفقة بقيمة أكثر من ملياري دولار في مارس/أذار الماضي. لم تدفع وزارة الدفاع ثمن تلك الأسلحة من الإيرادات المتراكمة لأنشطتها التجارية، بل حصلت على قروض من المصارف الفرنسية. ويصر الجيش عادة على أن مؤسساته التجارية المربحة تهدف إلى تأمين الاكتفاء الذاتي من السلع والأسلحة، ولكن في هذه الحالة لم يدفع الجيش لصفقاته الكبيرة من حساباته الخاصة، وبدلا من ذلك، فإنه طلب من وزارة المالية المدنية ضمان القرض الكبير وتحمل الفاتورة في حال التخلف عن السداد.

ليست التجربة الأولى

عندما اندلعت أعمال الشغب في الأسبوع الماضي، تذكر بعض المصريين أحداثا مماثلة وقعت قبل أربعة عقود. وفي عام 1977، حاول «أنور السادات»، وهو رئيس عسكري آخر، أن يأخذ مشورة الصندوق ويقلل الدعم الغذائي. هتف متظاهرو الخبز ضد صندوق النقد الدولي وسرعان ما سحقتهم دبابات الجيش. وفي النهاية، ألغى السادات القرار وألقى باللوم في الاضطرابات على الشيوعيين.

الفارق الوحيد في احتجاجات اليوم أنه لا يوجد شيوعيون لإلقاء اللوم عليهم. ومن المحتمل أن تكون أعمال الشغب هذه ليست خطأ صندوق النقد الدولي، حيث استفادت المنظمة من دروسها التاريخية، وتضمنت اتفاقية القرض أن الحكومة المصرية يجب أن تعزز «شبكات الأمان الاجتماعي» للفئات الضعيفة المتأثرة بالإصلاح الاقتصادي.

وعلى الرغم من السخط الشديد، فإن النظام العسكري يشعر بالثقة الكافية في قبضته على الأمن ليذهب إلى أبعد من ذلك في التدابير المتطرفة للإصلاح الاقتصادي. وتم إضعاف الأحزاب السياسية في البلاد بشكل كامل، وتفككت النقابات العمالية وتعرض ناشطو حقوق الإنسان للمحاكمة في محاولة لمنع هذا النوع من الانتفاضات الجماعية التي وقعت في عام 2011. ومع ذلك فإن الطبقة الوسطى تشهد اليوم حراكا اجتماعيا بسبب تدني مستوى معيشتها، والطبقة الدنيا من الواضح أنها لا تحتاج إلى تشجيع الناشطين السياسيين المحترفين لإثارتهم للنزول إلى الشوارع. وأثبت الجوع وانعدام توفر الأدوية بأسعار معقولة أنها عوامل كافية لاندلاع الانتفاضات في الشمال والجنوب، ويمكن أن تتصاعد هذه المشاكل إلى اضطرابات عنيفة مستمرة.

بصرف النظر عن أخبار انتهاكات حقوق الإنسان واضطهاد المعارضين السياسيين، فإن المناخ السياسي بدا هادئا ومستقرا في مصر لفترة طويلة. ويعتزم «السيسي» إجراء زيارته الأولى للبيت الأبيض في الوقت الذي تلقى فيه زيارتين هامتين من لمستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» ورئيس القيادة المركزية الأمريكية. ومع ذلك تكشف الاحتجاجات الأخيرة في مصر أنه تحت هذا الهدوء هناك حرب مستعرة بين الجيش المهيمن في البلاد وسكانها الفقراء، ولا يمكن ضمان استقرار النظام العسكري المصري في ظل هذه الأحوال.

  كلمات مفتاحية

السيسي دعم الخبز الاقتصاد المصري سيطرة الجيش ثورة الفقراء

تقرير: تنامي سيطرة الجيش على الاقتصاد في مصر تثير مخاوف القطاع الخاص

في «يوم اليتيم».. أيتام مصريون يعانون ظروفا معيشية صعبة

شركات الاستشارات الغربية في خدمة الأنظمة السلطوية