«جورج فريدمان»: الاستفتاء التركي.. تركيا بين العلمانية والدين

الأربعاء 19 أبريل 2017 07:04 ص

كان الاستفتاء في تركيا يوم الأحد حول زيادة صلاحيات الرئيس. ولكن على مستوىً أعمق، كان الأمر يتعلق بالعلاقة بين الشرائح العلمانية والدينية في المجتمع. عندما أسس «مصطفى كمال أتاتورك» تركيا الحديثة، كان مرجعه الثقافة الأوروبية. وكان ذلك يعني أنّ تركيا احتاجت إلى نظام سياسي علماني. وبالطبع لم يكن إنشاء مثل هذا النظام في بلدٍ يغلب عليه الطابع الإسلامي أمرًا سهلًا. وتم حل هذه المعضلة بتمكين جيشٍ قوي يكون وصيًا دستوريًا للدولة العلمانية، وحمايتها ضد سلطة الدين.

وبعد قرنٍ من الزمان تقريبًا من تأسيس تركيا، لم يعد من الممكن الدفاع عن الصيغة الكمالية (نسبةً إلى كمال أتاتورك). وقد أعاد المتدينون في العالم الإسلامي التأكيد على استمرار وجودهم في عددٍ من المسارات المتباينة. وقد أدى ذلك بالضرورة إلى تفعيل وتحميس الجماهير الإسلامية في تركيا. وقد واجهت الثقافة الأوروبية العلمانية التي هيمنت على البلاد رفضًا قويًا متزايدًا من قبل المتدينين. والسؤال السياسي والاجتماعي الأساسي هنا هو كيفية إنشاء نظام حكمٍ واحدٍ مبنيٍ على ثقافتين متباينتين، ولا يمكن إغفال إحداها. فتركيا بلدٌ مسلمٌ قامت حداثته على العلمانية. وإذا دمرت العلمانية، فأنت تهدم الإنجازات التي حققتها تركيا حتى الآن، وإذا هاجمت المسلمين، فأنت تشعل دينًا لا يستسلم إذا تمّت استثارته. ولقد أصبحت تركيا جمهوريةً مليئة بالازدراء المتبادل وانعدام الثقة، وكل من يحكم تركيا سيكون كمن يركب نمرًا. إذا سقط، سوف تتمزق تركيا. وإذا بقي على النمر، سيتعين أن يبقى هذا النمر (الذي يمثل المنافسة بين الإسلام والعلمانية) خائفًا من راكبه.

وتتمثل طريقة العلمانية في استيعاب الدين بإنشاء فصلٍ جذري بين العام والخاص. ويكون الدين فيها جزءًا من الحياة الخاصة، في حين يجب على المجال العام أن يبقى محايدًا في المسائل الدينية. وبعبارةٍ أخرى، تكون الحياة العامة علمانية، ويكون للناس حرية اختيار الطريقة التي يريدون بها أن يعيشوا حياتهم الخاصة. والمشكلة هي أنّ العلمانية ليست محايدة. إنّها رؤية للعالم، وهي مبنية على افتراضٍ استثنائي مفاده أنّ الفصل الجذري بين الحياة العامة والخاصة أمرٌ ممكن. لكن، إذا كنت تعتقد أنّ للكون غرضٌ إلهي، وأنّ حياتك هذه جزءٌ من هذا الغرض، فكيف يمكنك أن تقصر هذا الاعتقاد على عالمٍ خفي من حياتك الخاصة؟ وكيف يمكن للثقافة أن تلغي معتقداتها القديمة من الحياة العامة وتبقى موحدة في نفس الوقت؟

وتؤكد العلمانية أنّها محايدة لأنّها لا تنحاز ​إلى ​أيٍ من الأديان التقليدية. ولكن المشكلة هي أنّ العلمانية هي دين تقليدي، وهي تحافظ على المطالبات الأخلاقية، وفيها إيمانٌ بطبيعة الإنسانية والغرض منها. وهي تفعل ذلك بتأكيد مركزية الفرد وحقه في الاختيار. لكن لا أحد منا يستطيع عيش حياته وتطويرها كفردٍ منفصل عن التأثيرات الاجتماعية. وتتجاوز العلمانية فكرة الإيمان عندما تؤكد أنّ المجتمع يمكن أن يبنى حول الفرد، فهو ولد لأسرة في مكانٍ ما مع ماضي ولغة وثقافة، ولكن ينتظر منه أن يكون مستقلًا. وحتى فكرة الاستقلال الذاتي الإنساني تلك هي ادعاءٌ أخلاقي. وبعبارةٍ أخرى، لا تعد العلمانية محايدة، لكنّها منافسةٌ للأديان الأخرى. تفتقر نعم إلى وجود أي إله، لكنّ الإله فيها هو الفرد.

في البداية، يرى العلمانيون عودة ظهور التدين على أنّه مجرد صعودٍ مؤقت، ويرون أنّه عدوٌ للحرية. وبسبب فشلهم في فهم أنّ الادعاء العلماني بالتفوق الأخلاقي يجب أن يكون مبررًا وليس أمرًا بديهيًا، يجد العلمانيون أنفسهم في موقف الدفاع. وعلى افتراض أنّ اقتصار الدين على الحياة الخاصة هو في حد ذاته حل مستقر، فإنّه بذلك يقوض أسس العلمانية. وعلى عكس «توماس جيفرسون» أو «جوزيبي غاريبالدي»، فإنّ العلمانيين الجدد سياسيين سيئين. فهم لا يعرفون متى عليهم الخروج من صفقةٍ ما.

ولقد حققت العلمانية أشياءً غير عادية. وكان خادمها العلم، وخلقت أنماطًا للحياة لم يسبق لها مثيل من قبل. لكنّ العلمانية قد جلبت الأهوال أيضًا وأدت إلى ظهور أيديولوجيات ورؤى هدامة لما يجب أن تكون عليه البشرية. ولم يتم التعبير عنها كتابةً فقط ولكن وضعت موضع التنفيذ، فالفاشية والشيوعية والديمقراطية الليبرالية كلها كانت نتاج العلمانية.

وصنعت الأنظمة المستوحاة من بعض هذه الأيديولوجيات في القرن 20 قدرات تنظيم القاعدة. وخلقت رؤية العلمانية للبشرية، إلى جانب قوة التكنولوجيا التي أطلقتها العلمانية، عهد الإرهاب العالمي. لقد هزمت الديمقراطية الليبرالية الأيديولوجيات الأخرى. وأعتقد أنّ الأكثر أخلاقية هو من فاز، لكنّ ذلك يمهد السبيل لتحدٍ آخر. ولا تزال مزاعم معتقدات آبائنا قائمة، وهي تشبه إلى حدٍ كبير العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام والوثنية التي سحقتها تلك الأديان. لم تتوقف هذه الوثنية أبدًا عن التوريث من جيل إلى جيل، وبطريقةٍ محدودة، تعد العلمانية هي التجسيد الحديث للوثنية.

وليست تركيا هي المنطقة الوحيدة التي تتعامل مع الصراع بين حكم العلمانية والدين. وتواجه أوروبا والولايات المتحدة أيضًا هذه القضية. وفي الوقت الذي يزيد فيه الدينيون من عزمهم، يصبح العلمانيون أكثر عدوانية. وكلما أصبحت العلمانية أكثر راديكالية، كلما ازدادت قوة نقادها. وبالنسبة لي، فإنّ المعتقدات التي تم قمعها بشدة أكثر خطورة من تلك التي نعترف بوجودها.

يتضح هذا الصراع بشكلٍ خاص في تركيا. فهذا هو المكان الذي التقت فيه المسيحية بالإسلام، واندمجا وخرجا بشيءٍ جديد. وإسطنبول، بعد كل شيء، هي مقر قسطنطين، المؤسس السياسي للمسيحية. وهي مدينة العلمانية الأوروبية، التي تواجه السلطة المتجددة وقوة الدين القديم. ويرى العلمانيون أنّ الدين بدائي، ويرى الدينيون أنفسهم حراسًا للحقائق القديمة.

وينظر العلمانيون في تركيا وخارجها إلى الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» كوحش. وهم بذلك يصنعون خطأً فادحًا. فهو الزعيم الذي لم يتمسك فقط بالنمر، لكنّه أيضًا تمكّن من ركوبه. وإذا لم يتمكن من التوفيق بين العلمانيين والدينيين، فإنّ ما سيأتي بعده سيكون أسوأ بكثير. وقد انتهى حكم العلمانيين في تركيا المدعوم من الجيش. وفي الوقت نفسه، نشهد تحولًا للعلمانية من نظامٍ للتسامح يستوعب المعتقدات الخاصة في الحياة العامة، إلى محاولة استبعاد تلك المعتقدات من المجال العام.

بالنسبة للعلمانية، يجب الحفاظ على الفصل بين العام والخاص بأي ثمن. وفي القرن الحادي والعشرين، يعيد الماضي تأكيد مطالبته بالمجال العام. وفي الوقت نفسه، تعلن العلمانية أن الله يجب أن يبقى بعيدًا عن الحياة العامة وأنّ العلمانيين هم نبيه الوحيد. وسيؤدي هذا إلى المزيد من أمثال «أردوغان»، وإذا خسروا، فإنهم سوف يحظون بمن هو أسوأ منه.

  كلمات مفتاحية

تركيا أردوغان الاستفتاء التركي العلمانية

ثلاثة رؤساء وزراء أتراك سابقون يهنئون «أردوغان» بنتيجة الاستفتاء

نهائي غير رسمي: 51.4% من الأتراك يوافقون على التعديل الدستوري رغم رفض إسطنبول وأنقرة

تركيا.. حضور القرآن بالمناسبات يثير غضب العلمانيين ومسؤول يرد بصورة لأتاتورك