ليبيا.. صعـوبات الانتقال من الحـوار إلى السـلام

السبت 13 مايو 2017 01:05 ص

منذ توجه دول "جوار ليبيا" إلى دعم الحل السياسي، تسارعت وتيرة اللقاءات بين سياسيي ليبيا، لكن، رغم هذه التطورات، لا تزال محاولات الاقتراب من السلام، في مرحلةٍ تمهيديةٍ، وتواجه تحدياتٍ داخلية وخارجية، ومن ثم ينصب الجدل حول إمكانية توفر فرصةٍ للخروج من الصراع المسلح والحرب الأهلية وبناء إطارٍ متماسكٍ للمؤسسات السياسية.  

 

حوار السلطة التشريعية 

رغم مرور عام على تشكيل المجلس الأعلى للدولة، لم يخرج المؤتمر الوطني العام من المشهد السياسي، حيث ظل واحداً من مكونات السياسة الليبية، فكما أجرى رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، محادثات مع رئيس المجلس، عبد الرحمن السويحلي، فقد التقى أيضاً مع رئيس حكومة الإنقاذ، خليفة الغويل.

وهو ما يمكن اعتباره قبولاً متبادلاً للوضع القائم، ومحاولة لتوسيع الاتصالات السياسية مع أطرافٍ مختلفة، وتشكل هذه التحركات امتداداً لحوارات القاهرة الداعمة لتشكيل لجنة "الحوار الوطني"، ودعم المسار السياسي. 

قد يشكل لقاء صالح والسويحلي خطوة مهمة في التقارب بين مكونات السلطة التشريعية، فبالنظر إلى "بيان روما" (21 أبريل/ نيسان 2017)، يمكن ملاحظة مؤشرات حسن النية، لكن البيان لم يتطرّق للمسائل الجوهرية المتعلقة بمشكلات الاتفاق السياسي، وأشار إلى تأجيلها إلى لقاءاتٍ أخرى.

لكن بياناً منفصلاً أصدره رئيس مجلس النواب، أفاد فيه بأن اللقاء حقق نتائج إيجابية، ليس فقط في تلاقي المؤسستين وفق مقتضيات التعامل السياسي، ولكن في حدوث تقدّمٍ في ملفات مهمة، كتسمية المناصب العليا في الدولة واعتمادها، ورفع حظر السلاح وتعديل المجلس الرئاسي وتوحيد المصرف المركزي.

يبدو هذا اللقاء نقطةً مهمةً في تقارب المؤسسات الليبية، ومن بينها محافظ المصرف المركزي، غير أن حديث صالح عن التعامل مع السويحلي بصفته مواطناً ليبياً يساهم في خفض التوقعات بالتقدم في المسارات السياسية، لكنه، على أية حال، يظل آليةً وطريقاً مهماً للحل السياسي. 

 

تحديات المركزية والعسكرة 

تكشف تصورات اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، عن استقرار رؤيته إلى محورية دور الجيش في السياسة الليبية، يصح ذلك في طرحه تكوين هيئةٍ رئاسيةٍ "مؤقتة"، تحمل صفة القائد الأعلى، تتألف من رئيس البرلمان والقائد العام ورئيس الحكومة، فيشكل هؤلاء كيان هذه الهيئة، بحيث تكون بديلاً عن المجلس الرئاسي، واستبداله بمنصب رئيس الوزراء، وهي صيغةٌ تجعل الجيش طرفاً أصيلاً في السلطة المدنية. 

لم يقتصر التوسع في شغل العسكريين للوظائف المدنية في المنطقة الشرقية، لكنه ارتبط بدمج رجال معمر القذافي في الترتيبات الانتقالية. وتبعث هذه السياسات على إبراز جانبين مهمين؛ الأول أن فرص حل الصراع المسلح تبدو ضئيلة، وخصوصاً في ظل تشكيل الأجهزة الأمنية والعسكرية امتداداً للنظام السابق وإضعاف الإدارة المدنية. أما الجانب الثاني، فهو أن هذه التصرّفات سوف تقود إلى صيغةٍ وحيدةٍ من المركزية، وبشكلٍ يتجاهل المناقشات على مدى السنوات الماضية حول اللامركزية والفيدرالية وحقوق المكونات الثقافية. 

تؤثر هذه التوجهات على صياغة التحالفات السياسية والعسكرية داخل ليبيا، فمن جهةٍ تتنوع التحالفات الموالية لحفتر ما بين التطلع إلى الفيدرالية أو اللامركزية. وهناك تناقض آخر يتمثل في أنه، بينما يركز حفتر على بناء السلطة على معايير دون قبلية، فإن تطلعات القبائل للمشاركة في السلطة كانت واضحةً خلال السنوات الماضية، عندما دخلت في صراعٍ مناهضٍ للأحزاب السياسية. 

يمكن القول إن توجه خليفة حفتر نحو دولةٍ مركزيةٍ يشكل واحداً من عوامل القلق لتحالفاته في شرق ليبيا، حيث يتعارض مع تطلعات الفيدرالية إلى بعض التيارات القبلية في الشرق، كما يفرض قيوداً على استقرار تحالفاته في غرب ليبيا أو جنوبها، ومن ثم، فإن استمرار هذا التوجه يفتح أفق الصراع بصورةٍ لا يمكن السيطرة عليها. 

وتشير خبرة المرحلة الانتقالية إلى تفضيل المجموعات الإثنية (المكونات الثقافية) للامركزية. ومن ثم يمكن القول إن طرح مشروع مركزية السلطة سوف يدفع كلا من "التبو" و"الطوارق" و"الأمازيغ" إلى الدفاع عن الحد الملائم من اللامركزية. لا تبدو نتيجة هذه المسارات مريحةً للخروج من الصراع المسلح، فكما يضعف التلاقي بين حفتر والفيدراليين والتبو، فإنها تدفع الطوارق والأمازيغ إلى مقاومة مشروع حفتر للحكومة المركزية، ما يشكل بيئةً خصبةً لأوجه الصراع المعقدة في ليبيا. 

كما تشكل المعارك في جنوب ليبيا مرحلةً متقدمةً من النزاع المسلح، ليس فقط بسبب انتقال المعارك من سرت والشرق. ولكن بسبب تناقضها مع الحل السياسي، والسعي إلى نقل نموذج عسكرة الإدارة المدنية. وهنا، يشكل انتشار المعارك عاملاً رئيسياً في إثارة الصراع الاجتماعي وتفكّك المؤسسات، كما أن النتيجة الأكثر أهميةً تتمثل في فقدان الثقة في "الحوار الوطني" والسياق الدستوري. 

 

تراجع الأحزاب 

بشكل عام، يتراجع تأثير الأحزاب في السياسة الليبية، سواء على مستوى "تحالف القوى الوطنية" في مجلس النواب أو "العدالة والبناء" في المجلس الأعلى للدولة. وتشكل هذه الظاهرة امتداداً لتداعيات التنافس/ الصراع بين القبائل والأحزاب على ملء الفراغ بعد سقوط القذافي. وفي هذا السياق، شكلت انتخابات مجلس النواب (يونيو/ حزيران 2014) نقطةً فارقةً في الدور السياسي للأحزاب. ومن الملاحظ أن رئيسي "المؤتمر" و"النواب" لم يكونا من الكتل النيابية الكبيرة، وكان آخر هذه التراجعات متمثلاً في فقدان "العدالة والبناء" وكالة المجلس التي شغلها في وقتٍ سابق. 

وتشير بيانات التحالف الوطني، مطلع العام الحالي، إلى تركيزه على دعم الحوار الوطني وتسوية النزاع السياسي بين الحكومات المختلفة، ومراجعة صيغة المجلس الرئاسي، وهي تصوراتٌ تتقارب مع ما يطرحه "العدالة والبناء"، وإذا كان ثمّة توافق على انتقاد أداء "المجلس الرئاسي"، فإنهما يختلفان حول تقييم صلاحية اتفاق الصخيرات، باعتباره إطاراً ملائماً لحل المشكلات السياسية، حيث يذهب التحالف إلى تزايد احتمالات فشل الاتفاق، خصوصاً أنه لم يؤد إلى تهدئة الصراع، بل ساهم في إثارة مشكلات جديدة. 

 

السياق الإقليمي والدولي 

بعد محاولات دول "جوار ليبيا" فتح قنوات اتصال مع أطراف ليبية، وعلى الرغم من تنوع مبادرات دول الجوار لإنهاء الانقسام السياسي، فإن التواصل المباشر يوفر أرضيةً ملائمة لاستكشاف الحلول الممكنة للأزمة السياسية، حيث يساهم هذا التقارب في التحول عن لغة الصراع والاقتراب من لغة المصلحة. ولذلك، اتجهت مصر إلى الانفتاح على الأطراف السياسية في ليبيا للتوافق حول المسار السياسي، ودعم الحوار الوطني. ويمكن القول إن بيان اللجنة الوطنية المصرية المعنية بليبيا (15 فبراير/ شباط 2017) ساهم في تشكيل أرضيةٍ مشتركةٍ بين غالبية السياسيين الليبيين، وبجانب أنها وضعت ملامح خريطة طريقٍ لحل الأزمة، فإنها كسرت حدة التباعد بين الأطراف السياسية، بشكلٍ يمهد لسلسلة لقاءات أخرى على أرضية "الاتفاق السياسي"، فعلى الرغم من محدودية نتائج المحاولة الأولى، فإنها فتحت الطريق لتكرار هذه المبادرات، وكانت المحاولة الثانية في الإمارات، وشهدت هذه تقدماً نسبياً. 

تأتي هذه التطورات في ظل توجيه الولايات المتحدة دعوة إلى رئيس حكومة الوفاق، فايز السراج، لزيارتها في وقت متزامن مع زيارة حفتر. وعلى الرغم من أهمية لقاءات الطرفين، تبدو علاقات حفتر أكثر استقراراً مع الإمارات والولايات المتحدة. قد تنعكس هذه الوضعية على نتائج اللقاءات المتكرّرة، والتي تتم في نطاق البلدان الأقرب إلى دعم حفتر ومشروعه السياسي، فيما أن السراج يعبر عن حالة اعترافٍ دوليةٍ لم تفلح في وضعه الممثل الرئيسي للدولة. 

وهنا لحق الموقف الروسي بالمواقف الدولية الأخرى، عندما أعلنت عن الانفتاح على كل الأطراف الليبية، ما يشكل تغيراً مهماً في تناول الأزمة السياسية في ليبيا. وفي هذا السياق، جاءت زيارة عسكريين من "البنيان المرصوص" روسيا، ما يمكن أن يؤسّس لتصوراتٍ عن بناء الجيش والأجهزة الأمنية، حيث لا يشكل حفتر المدخل الوحيد أمام روسيا للسياسة الليبية. 

 

كوبلر والحل السياسي 

في ظل هذه التجاذبات، ظلت الأمم المتحدة ترى أن الاتفاق السياسي يشكّل الحل الأخير للأزمة السياسية في ليبيا. ووفق إفادة مبعوث المنظمة الدولية، مارتن كوبلر، لمجلس الأمن (19 أبريل/ نيسان 2017)، تأسس موقفها على جانبين؛ الأول أن الأمم المتحدة لا ترى وجود بديل عن الاتفاق، وأن انهياره يُضعف فرص الالتزام باتفاقٍ آخر.

لذلك، ترى إجراء تعديلاتٍ عبر لجنة "الحوار الوطني" تقوم على استكمال بناء المؤسسات المنبثقة عن اتفاق الصخيرات، وتهدئة الانقسامات السياسية، والتخلي عن ذهنية تقاسم السلطة التي تشكل الجذر الرئيسي لانهيار الخدمات العامة، وفقدان الحكومات المتنازعة لقدراتها.

فالمشكلة، كما يراها كوبلر، ليست في الفساد بحد ذاته، لكنها تتمثل في انقسام المؤسسات النقدية والاقتصادية، وأن الصراع عليها يمكن أن يقود البلاد إلى حالة فراغ سياسي. أما الجانب الثاني، فهو أنه لا يمكن تحقيق وحدة الدولة عن طريق العنف (الصراع المسلح)، ولكن البحث عن مسارات بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية الموحدة، وهي صيغةٌ تميل إلى كبح الصراع المسلح، لكنها تظل دون أدوات فاعلة. 

 

بين حفتر والسراج 

لم يقتصر البيان المشترك، عقب لقاء الإمارات (3 مايو/ أيار 2017)، على تناول الشؤون العسكرية والأمنية، ولكنه شمل الجوانب الاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى الإشارات الخاصة لـ "تضحيات الجيش الليبي" في أنحاء البلاد. وبهذا المعنى، يمكن القول إن ثمة توافقات على اعتبار أن دور حفتر لا يقتصر على الجوانب العسكرية، وإنه الشخصية المناظرة للسراج في تمثيل الدولة، وهي صيغةٌ تؤدي إلى نتيجتين، تزايد تأثيرهما على تعديلات اتفاق الصخيرات.

وأن هذه التوجهات تمهد الطريق لاعتبار الجيش، بتكوينه الراهن، المؤسسة العسكرية للدولة، وهذا ما يؤدي إلى استبعاد أطراف وديناميات أخرى من الترتيبات السياسية والعسكرية، وخصوصاً ما يتعلق بدمج المسلحين في الجيش أو جهاز الدولة. 

يبدو أن صيغة البيان المشترك لم تكن كافيةً لتوضيح نتائج لقاء أبو ظبي. لذا، قد يكون إصدار بيان السراج محاولة لتدارك هذه الفجوة (3 مايو/ أيار 2017)، عندما أشار إلى بعض الجوانب، كان في مقدمتها بناء الدولة الديمقراطية، والانتهاء من مشروع الدستور، ومعالجة المشكلات الاجتماعية والإنسانية.

ويمكن النظر إلى موقف رئيس المجلس الرئاسي بأنه كان أكثر اقتراباً من طبيعة المرحلة الانتقالية، ومن المناقشات الدائرة حول تعديل الاتفاق السياسي، حيث يميل إلى الروح التفاوضية، وفتح الفرص المتساوية أمام كل الكيانات للمشاركة في تعديل الاتفاق السياسي، أو التحفيز على الوصول للوضع الدستوري الدائم والخروج من الحالة الانتقالية. 

لا توضح المؤشرات الحالية مدى الاستقرار على الحل السياسي، فإن تراكم المشكلات وتفكّك المؤسسات السياسية وعدم القدرة على حسم الصراع، عوامل تشكل تحدياتٍ أمام الانتقال نحو السلام، حيث يفتقد الدولة والمجتمع البنية الملائمة للتغيير السياسي.

في ظل تعثر طرح مشروع الدستور للاستفتاء وإنهاء المرحلة الانتقالية، تبدو أولوية استثمار مبادرات السلام المطروحة في تعديل "الصخيرات"، ليس فقط بالاعتماد على لجنة الحوار الوطني.

ولكن، من خلال تطوير فكرة دمج المؤسسة التشريعية كجهة واحدة (المؤتمر الوطني، انتخابات يوليو/ تموز 2012 مجلس النواب) للتصدّي للمشكلات القائمة، حيث إن إعادة هيكلة السلطات تزيد من فرص خفص انقسامها، كما يمكن أن تساعد في تسوية الخلاف حول وجود ثلاث حكوماتٍ تتنازع إدارة الدولة.

* د. خيري عمر باحث وعالم سياسة أستاذ العلوم السياسية بجامعة صقريا - تركيا

المصدر | د. خيري عمر | العربي الجديد

  كلمات مفتاحية

ليبيا الحل السياسي خليفة حفتر المؤتمر الوطني العام عقيلة صالح عبد الرحمن السويحلي اتفاق الصخيرات حكومة الوفاق